3 الكتاب : آيات الأحكام 001


(1/140)

اللطيفة الثانية : قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } ولم يذكره في الآية السابقة { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [ البقرة : 226 ] فما هي الحكمة؟
والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجاً لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن ، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص ، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق .
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق ، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن ، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب ، تقول : إن كنت مؤمناً فلا تؤذ أباك ، وإن كنت مسلماً فلا تغشّ الناس ، فهذه هي النكتة في التعبير .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ . . . } الآية أي أحق برجعتهن .
قال الإمام الفخر : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان ، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } فيه إيجاز وإبداع ، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان ، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني ، ومن الثاني بقرينة الأول ، كأنه قيل : لهنّ على الرجال من الحقوق ، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات ، وفيه من علم البديع ما يسمى ب ( الطباق ) بين لفظَيْ ( لهنّ ) و ( عليهن ) وهو طباق بين حرفين ، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في ( حجة الوداع ) بقوله : « ألا إنّ لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن » .
وعن ابن عباس أنه قال : « إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي ، لأن الله تعالى يقولك { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ } » .
اللطيفة السادسة : الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله } ليست درجة ( تشريف ) وإنما هي درجة ( تكليف ) وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق
(1/141)

{ الرجال قوامون عَلَى النسآء } [ النساء : 34 ] الآية والله تعالى قد وضع ميزاناً دقيقاً للتفاضل هو التقوى والعمل الصالح { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] فقد تكون المرأة أفضل عند الله من ألف رجل ، وهذا هو المبدأ العادل الكريم .
اللطيفة السابعة : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول خلع كان في الإسلام في « امرأة ثابت بن قيس أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً ، والله ما أعيب عليه في خلُق ولا دين ، ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ، ما أطيقه بغضاً ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سواداً ، وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ، فقال زوجها يا رسول الله : أعطيتها أفضل ما لي ( حديقة ) لي ، فإن ردّت عليّ حديقتي طلقتها ، فقال لها عليه السلام ما تقولين؟ قالت : نعم ، وإن شاء زدته ، قال ففرق بينهما » .
اللطيفة الثامنة : قال العلامة أبو السعود : وضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } { تِلْكَ حُدُودُ الله } { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة في النفوس ، وتعقيب النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي عدة المطلقة ، والحامل ، والتي لا تحيض؟
أوجب الله تعالى العدة على المطلقة { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } والمراد بالمطلّقات هنا ( المدخول بهن ) البالغات من غير الحوامل ، أو اليائسات ، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
وعدة الحامل وضع الحمل لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
والمرأة التي لا تحيض وكذا اليائسة عدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] الآية .
فتبيّن من هذا أن الآية قد دخلها التخصيص ، وأنّ العدة المذكورة في الآية الكريمة هي للمطلّقة المدخول بها إذا لم تكن صغيرة أو يائسة أو حاملاً .
الحكم الثاني : ما المراد بالأقراء في الآية الكريمة؟
تقدّم معناه أن ( القرء ) في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر ، وقد اختلف الفقهاء في تعيين المراد به هنا في الآية الكريمة على قولين :
أ - فذهب مالك والشافعي : إلى أن المراد بالأقراء : الأطهار ، وهو مروي عن ( ابن عمر ) و ( عائشة ) و ( زيد بن ثابت ) ، وهو أحد القولين عند الإمام أحمد رحمه الله .
ب - وذهب أبو حنيفة وأحمد ( في الرواية الأخرى عنه ) إلى أن المراد بالأقراء : الحيض ، وهو مروي عن ( عمر ) و ( ابن مسعود ) و ( أبي موسى ) و ( أبي الدرداء ) وغيرهم .
حجة مالك والشافعي :
احتج الفريق الأول لترجيح مذهبهم بحجج نذكرها بإيجاز :
الحجة الأولى : إثبات التاء في العدد ( ثلاثة قروء ) وهو يدل على أن المعدود مذكر وأن المراد به الطهر ، ولو كان المراد به الحيضة لجاء اللفظ ( ثلاث قروء ) لأن الحيضة مؤنث والعدد يذكر مع المؤنث ، ويؤنث مع المذكر كما هو معلوم .
(1/142)

الحجة الثانية : ما روي عن عائشة أنها قالت : « هل تدرون الأقراء؟ الأقراء : الأطهار » .
قال الشافعي : والنساء بهذا أعلم . لأن هذا إنما يُبتلى به النساء .
الحجة الثالثة : قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] قالوا : ومعناه : فطلقوهن في وقت عدتهن ، ولما كان الطلاق وقت الحيض محظوراً ، دلّ على أن المراد به وقت الطهر ، فيكون المراد من القروء الأطهار .
حجة أبي حنيفة وأحمد :
واحتج الفريق الثاني على ترجيح مذهبهم بما يأتي :
أولاً : إن العدة شرعت لمعرفة براءة الرحم ، والذي يدل على براءة الرحم إنما هو الحيض لا الطهر .
قال الإمام أحمد : قد كنت أقول : القروء : الأطهار ، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض .
ثانياً : واستدلوا بقوله عليه السلام لفاطمة بنت حُبيش : « دعي الصلاة أيام أقرائك » والمراد أيام حيضك ، لأن الصلاة تحرم في الحيض .
ثالثاً : قوله عليه السلام : « لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة » فأمر بالاستبراء بالحيضة ، وقد أجمع العلماء على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيض ، فكذا العدة ينبغي أن تكون بالحيض ، لأن الغرض واحد وهو براءة الرحم .
رابعاً : أقام الله تعالى الأشهر مقام الحيض في العدة في قوله : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فدلّ على أن العدة تعتبر بالحيض لا بالطهر . وهذا من أقوى أدلة الأحناف .
خامساً : إذا اعتبرنا العدة بالحيض فيمكن معه استيفاء ثلاثة أقراء بكمالها ، لأن المطلّقة إنما تخرج من العدة بزوال الحيضة الثالثة ، بخلاف ما إذا اعتبرناها بالأطهار فإنه إذا طلقها في آخر الطهر يكون قد مر عليها طهران وبعض الثالث ، فيكون ما ذهبنا إليه أقوى .
الترجيح :
ولعلّ ما ذهب إليه الفريق الثاني يكون أرجح ، فإن الأحاديث الصحيحة تؤيده ، والغرض من العدة في الأظهر معرفة براءة الرحم ، وهو يعرف بالحيض لا بالطهر .
وقد رجّح العلامة « ابن القيم » في كتابه « زاد المعاد » هذا القول ونصره وأيده فقال : « إن لفظ ( القرء ) لم يستعمل في كلام الشارع إلاّ للحيض ، ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر ، فحملُه في الآية على المعهود المعروف من خطاب الشارع أولى ، بل يتعين ، فإنه عليه السلام قد قال للمستحاضة : » دعي الصلاة أيام أقرائك « وهو صلى الله عليه وسلم المعبّر عن الله ، وبلغه قومه نزل القرآن ، فإذا أورد المشترك في كلامه على أد معنييه ، وجب حمله في سائر كلامه عليه إذا لم يثبت إرادة الآخر في شيء من كلامه البتة ، ويصير هو لغة القرآن التي خوطبنا بها ، وإن كان له معنى آخر في كلام غيره ، وإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم أن هذا لغته فيتعين حمله عليها في كلامه ، ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } وهذا هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين ، وأيضاً فقد قال سبحانه :
(1/143)

{ واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض . . . } [ الطلاق : 4 ] الآية فجعل كل شهر بإزاء حيضة وعلّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر ، وقال في موضع آخر { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] معناه لاستقبال عدتهن لا فيها ، وإذا كانت العدة التي يطلق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق ، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض ، فإن الطاهر لا تستقبل الطهر ، إذ هي فيه وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها « .
الحكم الثالث : ما معنى قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } ؟
اختلف المفسرون في المراد من هذه الآية على أقوال :
فقال بعضهم : المراد بما خلق الله في أرحامهن : ( الحمل ) وهو قول عمر ، وابن عباس ، ومجاهد .
وقال بعضهم : المراد به ( الحيض ) وهو قول عكرمة ، والنخعي ، والزهري .
وقال آخرون : المراد به ( الحمل والحيض ) معاً ، وهذا قول ابن عمر ، واختاره ابن العربي .
قال ابن العربي : » والثالث هو الصحيح لأن الله تعالى جعلها أمينة على رحمها فقولها فيه مقبول إذ لا سبيل إلى علمه إلاّ بخبرها ، ولا خلاف بين الأمة أن العمل على قولها في دعوى الشغل للرحم أو البراءة ما لم يظهر كذبها « .
أقول : إنما حرم الله كتمان ما في أرحامهن لأنه يتعلق بذلك حق الرجعة للرجل ، وعدم اختلاط الأنساب ، فربما ادعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرحم بالحمل من زوجها ثم تزوجت فأدى ذلك إلى اختلاط الأنساب ، وربما حَرَمَت الرجل من حقه في الرجعة فلذلك حرّم الله كتمان ما في الأرحام .
الحكم الرابع : هل الآية عامة في كل مطلّقة؟
الآية الكريمة { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } عامة في المبتوتة ، والرجعية ، وقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } خاص في الرجعية دون المبتوتة ، لأن المبتوتة قد ملكت نفسها .
قال ابن كثير رحمه الله : » وهذا في الرجعيات ، فأما المطلَّقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية ( مطلقة بائن ) وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحق برجعه امرأته وإن طلّقها مائة مرة ، فلما قصوا على ثلاثة تطليقات ، صار للناس مطلّقة بائن ومطلقة غير بائن « .
الحكم الخامس : ما هو حكم الطلاق الرجعي؟
الطلاق الرجعي يبيح للرجل حق الرجعة بدون عقد جديد ، وبدون مهر جديد ، وبدون رضا الزوجة ما دامت المرأة في العدة ، فإذا انقضت العدة ولم يراجعها بانت منه ، وقد أثبت الشارع له حق الرجعة بقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي أحق بإرجاعهن في وقت التربص بالعدة ، وإذا كانت الرجعية حقاً للرجل فلا يشترط رضا الزوجة ولا عملها ، ولا تحتاج إلى ولي ، كما لا يشترط الإشهاد عليها وإن كان ذلك مستحباً خشية إنكار الزوجة فيه بعد أنه راجعها .
(1/144)

وتصح المراجعة بالقول مثل قوله : راجعتُ زوجتي إلى عصمة نكاحي ، وبالفعل مثل التقبيل ، والمباشرة بشهوة ، والجماع عند أبي حنيفة ومالك ، وقال الشافعي : لا رجعة إلا بالقول الصريح ولا تصح بالوطء ودواعيه ، لأن الطلاق يزيل النكاح .
قال الشوكاني : « والظاهر ما ذهب إليه الأولون ، لأن العدة مدة خيار ، والاختيار يصح بالقول وبالفعل ، وظاهر قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وقوله صلى الله عليه وسلم : » مُره فليراجعها « أنها تجوز المراجعة بالفعل لأنه لم يخص قولاً من فعل ، ومن ادّعى الاختصاص فعليه الدليل » .
الحكم السادس : هل الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً أم واحدة؟
دل قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } على أن الطلاق ينبغي أن يكون مفرقاً مرة بعد مرة وقد اختلف العلماء في الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ هل يقع ثلاثاً أو واحدة؟
فذهب جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة إلى أنه يقع ثلاثاً ، إمّا مع الحرمة ، وإما مع الكراهة على حسب اختلافهم في فهم الآية الكريمة .
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، وهو قول طاووس ومذهب الإمامية وقول ( ابن تيمية ) وبه أخذ بعض المتأخرين من الفقهاء دفعاً للحرج عن الناس ، وتقليلاً لحوادث الطلاق ، وفراراً من مفاسد التحليل .
دليل الجمهور :
استدل الجمهور على وقوع الطلاق الثلاث بما يلي :
أولاً : إن الله عز وجل جعل للطلاق حداً وأرشد الرجل إلى أن يطلق مرة بعد مرة ، وجعل له فسحة في الأمر حتى لا يضيع حقه في الرجعة ، فإذا تعدى الإنسان هذه الرخصة وطلّق ثلاثاً وقع طلاقه لأن له عليها طلقتين وبالثالثة تبين منه ، فإما أن يجمعها أو يفرقها . والإسلام قد أرشده إلى ما هو الأفضل والأصلح ، فإذا جاوز هذا إلى ما فيه تضييق عليه أخذ بجزيرة نفسه .
ثانياً : ما روي أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال له : إنه طلّق امرأته ثلاثاً ، قال مجاهد : فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه ، ثم قال : يطلّق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول : يا ابن عباس ، يا ابن عباس وإن الله تعالى يقول : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك « .
ثالثاً : واستدلوا بإجماع الصحابة حين قضى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقروه عليه ، ولم ينكر أحد من الصحابة وقوع الثلاث بلفظ واحد على عمر بن الخطاب فدل ذلك على الإجماع .
(1/145)

وقد ذهب البخاري إلى وقوع الثلاث وترجم على هذه الآية بقوله ( باب من أجاز الطلاق الثلاث ) بقوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } .
وهذا إشارة منه رضي الله عنه إلى أنّ هذا التعديد إنما هو فسحة لهم ، فمن ضيّق على نفسه لزمه .
حجة الفريق الثاني :
واستدل القائلون بوقوع الطلاق الثلاث واحدة بما رواه أحمد ومسلم من حديث طاووس عن ابن عباس أنه قال : « كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » .
وقالوا : إن الله قد فرّق الطلاق بقوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } أي مرة بعد مرة ، وما كان مرة بعد مرة لا يملك المكلف إيقاعه دفعة واحدة ، مثل ( اللعان ) لا بدّ ن التفريق فيه ، ولو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة ، ولو قال المقر بالزنى : أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة ، وقالوا : إن الشارع طلب أن يسبح العبد ربه ويحمده ، ويكبّره دبر كل صلاة ( ثلاثاً وثلاثين ) ولا يكفيه أن يقول : سبحان الله ثلاثاً وثلاثين ، ولا بدّ من التفريق حتى يكون قد أتى بالأمر المشروع .
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه « أعلام الموقعين » القول في المسألة وانتصر لرأي ابن تيمية ، وفعل مثله ( الشوكاني ) في كتابه « نيل الأوطار » وله رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور .
أقول : كلُّ ما استدل به الفريق الثاني لا يقوى على ردّ أدلة الجمهور وعلى إجماع الصحابة ، وكفى بهذا الإجماع حجة وبرهاناً وهذا ما ندين الله عز وجل به . ونعتقد أنه الصواب ، لأن مخالفة إجماع الصحابة وإجماع الفقهاء ليس بالأمر اليسير .
ويحسن بنا أن ننقل ما كتبه العلامة القرطبي في تفسير « الجامع لأحكام القرآن » حيث قال رحمه الله : « واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ، وهو قول جمهور السلف ، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر فقالوا : إن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ، ويحكى عن داود أنه لا يقع ، وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً ، ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات ، واستدل من قال بوقوعه واحدة بأحاديث ثلاثة :
أحدهما : حديث ابن عباس من رواية طاوس ، وأبي الصهباء ، وعكرمة .
وثانيها : حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثاً ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره برجعتها واحتسبت واحدة .
وثالثها : أنّ ركانة طلّق امرأته ثلاثاً فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ، والرجعة تقتضي وقوع واحدة .
(1/146)

والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاوي عن ( سعيد بن جبير ) و ( مجاهد ) و ( عطاء ) في روايتهم عن ابن عباس فيمن طلّق امرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه ، وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج ، وفيما رواه هؤلاء عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ، ما يدل على وهْن رواية طاوس وغيره ، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه .
قال ابن عبد البر : « رواية طاوس وهمٌ وغلط ، لم يعرّج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ، والمشرق والمغرب » .
قال الباجي : فإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأول فيه من لا يعبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ، ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه .
وأما حديث ابن عمر أنه طلّق ثلاثاً وهي حائض . . . إلخ فقد ردّه الدارقطني وقال : رواته كلهم من الشيعة ، والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض .
وأما حديث ( رُكانة ) فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع لا يستند من وجه يحتج به ، وهو عن عكرمة عن ابن عباس وفيه « إن رُكانة طلّق امرأته ثلاثاً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعها » .
والثابت أن ركانه طلّق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها؟ فحلف ما أراد إلاّ واحدة فردّها إليه .
فهذا اضطراب في الاسم والفعل ولا يحتج بشيء من مثل هذا .
والخلاصة فإن رأي الجمهور يبقى أقوى دليلاً ، وأمكن حجة ، لا سيما وقد تعزّز بإجماع الصحابة والأئمة المجتهدين والله أعلم .
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } .
اختلف المفسرون في معنى قول الله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } على أقوال عديدة نذكرها بالإجمال .
أ - المراد : الطلاق المشروع مرتان ، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع ، والآية مستقلة عمّا قبلها ، وهذا قول الحجّاج بن أرطأة ومذهب الرافضة .
ب - المراد : الطلاق المسنون مرتان وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومذهب مالك رحمه الله .
ج - المراد : الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان ، وهذا قول قتادة وعروة واختيار الجمهور .
قال الشوكاني في تفسيره « فتح القدير » : المراد بالطلاق المذكور هو الرجعي بدليل ما تقدم من الآية الأولى ، أي الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان ، أي الطلقة الأولى والثانية ، إذ لا رجعة بعد الثالثة ، وإنما قال سبحانه ( مرتان ) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة لا طلقتان دفعة واحدة « .
الحكم الثامن : هل يبلاح للزوج أخذ المال مقابل الطلاق؟
أمر الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان ، ونهى الزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطى المرأة من المهر إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } والمراد عدم إقامة حدود الله التي شرعها للزوجين ، من حسن المعاشرة والطاعة والقيام بحق كلٍ من الزوجين نحو الآخر ، فإن ظهرت بوادر الشقاق والخلاف ، واستحكمت أسباب الكراهية والنفرة جاز للمرأة أن تفتدي ، وجاز للرجل أن يأخذ المال ، وطلاقُ المرأة على هذا الوجه هو المعروف ب ( الخُلع ) وقد عرّفه الفقهاء بأنه » فراقُ الرجل زوجته على بدلٍ يأخذه منها « .
(1/147)

وفي أخذ الزوج الفدية عدلٌ وإنصاف ، فإنه هو الذي أعطاها المهر ، وبذل تكاليف الزواج والزفاف ، وأنفق عليها ، وهي التي قابلت هذا كله بالجحود وطلبت الفراق فكان من الإنصاف أن تردّ عليه ما أخذت منه .
والأصل في هذا ما رواه البخاري من قصة امرأة ثابت بن قيس وقد تقدم ، وفيه قال لها عليه السلام : « أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة » .
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز أن يأخذ الزوج من الزوجة زيادة على ما أعطاها لقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } وهذا عام يتناول القليل والكثير .
وقال الشعبي والزهري والحسن البصري : لا يحل للزوج أن يأخذ زيادة على ما أعطاها ، لأنه من باب أخذ المال بدون حق ، وحجتهم أن الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال والنساء فلا تجوز الزيادة ، والراجح أن الزيادة تجوز ولكنها مكروهة .
وقد اختلف الفقهاء هل الخلع فسخ أو طلاق؟
فذهب الجمهور إلى أنه طلاق ، وقال الشافعي في القديم إنه فسخ ، وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا خلعها هل تحسب عليه طلقة أم لا؟ والأدلة على هذه المسألة تطلب من كتب الفروع .
الحكم التاسع : ما هو حكم المطلقة ثلاثاً ، وكيف تحل للزوج الأول؟
دل قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } على أن المطلقة ثلاثاً تحرم على زوجها الأول حتى تتزوج بزوج آخر ، وهي التي يسميها الفقهاء ( بائنة بينونه كبرى ) وذلك لأن الله تعالى ذكر الطلاق وبيّن أنه مرتان ، ثم ذكر حكم الخلع وأعقبه بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } فدلّ على أن المراد به الطلاق الثالث .
قال القرطبي : « المراد بقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الطلقة الثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه » .
وذهب جمهور العلماء والأئمة المجتهدون إلى أن المراد بالنكاح في قوله تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } الوطء لا العقد ، فلا تحل للزوج الأول حتى يطأها الزوج الثاني .
(1/148)

وروي عن ( سعيد بن المسيب ) أنه قال : إن المطلقة ثلاثاً تحل للأول بالعقد على الثاني ، وهو ضعيف لمصادمته للحديث الآتي الصحيح .
واحتج الجمهور بما رواه ابن جرير عن عائشة قالت : « جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كنت عند رفاعة فلطقني فبتّ طلاقي ، فتزوجت عبد الرحمن بن الزّبير ، وإنّ ما معه مثل هدبة الثوب فقال لها : » تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك « » رواه أصحاب السنن .
والمراد بالعُسيلة : الجماع ، شبّه اللذة فيه بالعسل .
فقد وضّحتْ السنة المطهّرة أنّ المراد من فظ النكاح في الآية الكريمة هو ( الجماع ) لا العقد ، وقال بعض العلماء إن الآية نفسها فيها دلالة على ذلك ، فقد قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم نكح المرأة ، فقال فرّقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح فلانٌ فلانةً أرادوا أنه عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح زوجته أرادوا به المجامعة ، وهنا قال تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } فالمراد منه المجامعة .
الحكم العاشر : نكاح المحلّل وهل هو صحيح أم باطل؟
المحلِّل : بكسر اللام هو الذي يتزوج المطلّقة ثلاثاً بقصد أن يحلّها للزوج الأول ، وقد سمّاه عليه السلام بالتيس المستعار ففي الحديث الشريف « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلّل ، لعن الله المحلّل والمحلَّل له » .
وقد اختلف العلماء في نكاح المحلّل فذهب الجمهور ( مالك وأحمد والشافعي والثوري ) إلى أن النكاح باطل ، ولا تحل للزوج الأول .
وقال الحنفية وبعض فقهاء الشافعية : هو مكروه وليس بباطل ، لأن في تسميته بالمحلّل ما يدل على الصحة لأنها سبب الحل ، وروي عن الأوزاعي أنه قال : بئس ما صنع والنكاحُ جائز .
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على فساد نكاح المحلّل بما يلي :
أولاً - حديث « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلّل والمحلّل له » .
ثانياً - حديث « ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلّل . . . » الحديث .
ثالثاً - حديث ابن عباس « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلّل فقال : ( لا » أي لا يحل « إلاّ نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ، ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عُسيلتها ) » .
رابعاً - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « لا أوتي بمحلّل ولا بمحلّل له إلاّ رجمتهما » .
خامساً - ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلّها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال : لا ، إلاّ نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم « .
(1/149)

الترجيح :
والحق ما ذهب إليه الجمهور لأن النكاح يقصد منه الدوام والاستمرار ، والتأقيت يبطله فإذا تزوجها بقصد التحليل ، أو اشترط الزوج عيه أن يطلّقها بعد الدخول فقد فسد النكاح لأنه يشبه ( نكاح المتعة ) حينئذٍ ، وهو باطل باتفاق العلماء .
قال العلامة ابن كثير رحمه الله : « والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة ، قاصداً لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً ، لو وطئها وهي محرمة ، أو صائمة ، أو معتكفة ، لم تحلّ للأول بهذا الوطء ، واشترط الحسن البصري الإنزال وكأنه فهمه من قوله عليه السلام » حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك « .
ثم قال : فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو ( المحلّل ) الذي وردت الأحاديث بذمة ولعنه ، ومتى صرّح بمقصود ، في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة . . . ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك في » تفسيره « وقد أشرنا إلى بعضها فيما ذكرناه » .
« كلام السيد رشيد رضا في » المنار « »
وقال في « تفسير المنار » : « ألا فليعلم كل مسلم أن الآية صريحة في أن النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً هو ما كان زوجاً صحيحاً عن رغبة ، وقد حصل به مقصود النكاح لذاته ، فمن تزوجها بقصد الإحلال كان زواجه ( صورياً ) غير صحيح ، ولا تحل به المرأة للأول ، بل هو معصية لعن الشارع فاعلها ، فإن عادت إليه كانت حراماً ، ومثال ذلك من طهّر الدم بالبول ، وهو رجسٌ على رجس ، ونكاحُ التحليل شرٌّ من نكاح المتعة وأشد فساداً وعاراً . . . ثم نقل ما أورده ابن حجر المكي في كتابه » الزواجر « من الأخبار والآثار الدالة على التحريم ثم قال :
وأنت ترى مع هذا أن رذيلة التحليل قد فشت في الأشرار ، الذين جعلوا رخصة الطلاق عادة ومثابة ، فصار الإسلام نفسه يعاب بهم وما عيبة سواهم ، وقد رأيت في لبنان رجلاً نصرانياً ولع بشراء الكتب الإسلامية ، فاهتدى إلى حقيقة الإسلام مع الميل إلى التصوف فأسلم ، وقال لي : لم أجد في الإسلام غير ثلاثة عيوب لا يمكن أن تكون من الله ، أقبحُها مسألة ( التجحيش ) أي التحليل فبينت له الحق فيها فاقتنع » .
أقول : إنَّ في التحليل مفاسد كثيرة نبّه عليها العلماء ، وقد عقد العلامة ( ابن القيم ) في كتابة « أعلام الموقعين » فصولاً في بيانها ، وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنها أجازته ، وقد علمت الرأي الصحيح في الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين فالصواب ألا ينسب إليها حله والله المستعان .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب العدة على المطلقة رجعية كانت أو بائنة للتعرف على براءة الرحم .
(1/150)

2 - حرمة كتمان ما في الرحم من الحمل ، ووجوب الأمانة في الإخبار عن موضوع العدة .
3 - الزوج أحق بزوجته المطلّقة رجعياً ما دامت العدة لم تنته بعد .
4 - الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الزوجية سواء ، وله عليها درجة القوامة والإشراف .
5 - الطلاق الرجعي الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان فقط وفي الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر نكاحاً شرعياً صحيحاً بقصد الدوام والاستمرار .
6 - جواز الخلع والافتداء إذا كان ثمة مصلحة شرعية توجب الفراق .
7 - حرمة الإضرار بالزوجة لتفتدي نفسها من زوجها بالمال على الطلاق .
8 - لا بأس بعودة المطلّقة إلى زوجها الأول إذا طلّقها الزوج الثاني بعد المساس .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
أباح الإسلام الطلاق ، واعتبره أبغض الحلال إلى الله ، وذلك لضرورة قاهرة ، وفي ظروف استثنائية ملحّة ، تجعله دواءً وعلاجاً للتخلص من شقاء محتّم ، قد لا يقتصر على الزوجين بل يمتد إلى الأسرة كلها فيقلب حياتها إلى جحيم لا يطاق . والإسلام يرى أن الطلاق هدم للأسرة ، وتصديع لبنيانها ، وتمزيق لشمل أفرادها ، وضرره يتعدى إلى الأولاد ، فإن الأولاد حينما يكونون في حضن أمهاتهم يكونون موضعاً للرعاية وحسن التربية ، وإذا حرموا عطف الأم وحنانها تعرضوا إلى التمزيق والتشتت ، ومع هذا فقد أجازه الإسلام ، لدفع ضررٍ أكبر ، وتحصيل مصلحة أكثر ، وهي التفريق بين متباغضين من الخير أن يفترقا ، لأن الشقاق والنزاع قد استحكم بينهما ، والحياةُ الزوجية ينبغي أن يكون أساسها الحب ، والوفاء ، والهدوء ، والاستقرار ، لا التناحر ، والخصام ، والبغضاء .
فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه ، ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته ، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف ( فاحشة الزنى ) فهل يتركها تفسد عليه نسبه ، وتكدّر عليه حياته أم يطلّقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم ، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي ، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة .
وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك ، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق ، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر ، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الرويّة وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألاّ يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات .
يقول الأستاذ الفاضل ( أحمد محمد جمال ) في كتابه « محاضرات في الثقافة الإسلامية » ما نصه : « ومما ينبغي ملاحظته هنا في حديثنا الموجز عن الطلاق في الإسلام ، أن الشريعة الإسلامية انفردت بنظام ( المراجعة ) في الطلاق دون الشرائع الأخرى ، حرصاً على إعادة الرباط الزوجي بين الزوجين ، وحفاظاً على الذرية من الضياع والتشرد ، واستصلاحاً لما فسد بين الزوجين من مودة وسكن ، ويعتبر الطلاق الرجعي في الإسلام - وهو المرة الأولى والثانية - فترة اختبار للزوجين ، وفرصة تأمل ومراجعة للأخطاء والزلات والندم والتوبة ، ثم العودة إلى بيت الزوجية وما يظلله من مودة ورحمة وسكن وذرية .
(1/151)

كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن الإسلام جاء ليصحّح وضعاً خاطئاً ، ويحفظ للمرأة كرامة كانت مضيعة على عهد الجاهلية الأولى ، إذ كان العرب يطلّقون دون حصر أو عدد ، فكان الرجل يطلق ما شاء ثم يراجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها إضراراً لها ، حيث تظل معلّقة بين طلاق ورجعة في نهاية العدة ، ثم طلاق في بداية الرجعة وهكذا ، فنزل القرآن الكريم يضع لهذه الفوضى حداً ، ولهذا الظلم النازل بالنساء قيداً { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } .
(1/152)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
[ 17 ] أحكام الرضاع
التحليل اللفظي
{ والوالدات } : جمع والدة بالتاء ، والوالد : الأب ، والوالدة : الأم ، وهما الوالدان كذا في « اللسان » ، قال في « البحر » : وكان القياس أن يقال : والد ، لكن قد أطلق على الأب والد فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي ، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد فأطلق عليهما والدان .
{ حَوْلَيْنِ } : أي سنتين من حال الشيء إذا انقلب ، فالحول منقلبٌ من الوقت الأول إلى الثاني .
قال الراغب : والحول السنة اعتباراً بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها .
{ المولود لَهُ } : أي الأب ، لأن الأولاد ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات قال الشاعر :
فإنّما أمهاتُ الناسِ أوعيةٌ ... مستودَعاتٌ وللآباء أبناء
{ فِصَالاً } : فطاماً عن الرضاع ، والفِصَال والفَصْلُ : الفطام ، وإنما سمي الفطام بالفصال ، لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات .
قال المبرّد : يقال : فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً ، والفصالُ أحسن ، لأنه إذا انفصل عن أمه فقد انفصلت منه فبينهما فصال نحو القتال ، والضراب ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه .
{ وَتَشَاوُرٍ } : التشاور في اللغة : استخراج الرأي ومثله المشاورة والمشورة مأخوذ من الشور وهو استخراج العسل .
قال الراغب : والتشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم : شِرتُ العسل إذا استخرجته من موضعه .
{ تسترضعوا } : أي تطلبوا الرضاع لأولادكم يقال : استرضع أي طلب الرضاع ، مثل : استفتح طلب الفتح ، واستنصر طلب النصر .
والمعنى : إذا أردتم أيها الآباء أن تسترضعوا المراضع لأولادكم أي تطلبوا لهم من يرضعهم فلا إثم عليكم ولا حرج .
{ بالمعروف } : أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعاً الذي أمركم به الدين .
{ بَصِيرٌ } : أي مطلع على عمالكم ، لا تخفى عليه خافية والمراد أنه مجازيكم عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
المعنى الإجمالي
أمر الله تعالى الوالدات ( المطلّقات ) بإرضاع أولادهن مدة سنتين كاملتين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة ، وأنّ على الولد كفاية المرضع التي تقوم بإرضاع ولده ، والإنفاق عليها لتقوم بخدمته حق القيام ، وتحفظه من عاديات الأيام ، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف والقدرة والطاقة لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ثم حذّر تعالى كلاً من الوالدين أن يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد ، فلا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع الولد إضراراً بأبيه ، وأن تقول له مثلاً : اطلب له ظئراً غيري ، ولا يحل للأب أن ينزع الولد منها مع رغبتها في إرضاعه ، ليغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد .
ثمّ بيّن تعالى أن الوالدين إذا أرادوا فطام ولدهما بعد التشاور والتراضي قبل تمام الحولين فلا إثم ولا حرج إذا رأيا استغناء الطفل عن لبن أمه بالغذاء ، فإن هذا التحديد إنما هو لمصلحة الطفل ودفع الضرر عنه ، والوالدان أدرى الناس بمصلحته وأشفقهم عليه وإن أردتم - أيها الآباء - أن تطلبوا مرضعة لولدكم غير الأم بسبب إبائها ، أو عجزها أو إرادتها الزواج ، فلا إثم عليكم في ذلك ، بشرط أن تدفعوا إلى هذه المرضعة ما اتفقتم عليه من الأجر ، ولا تبخسوها حقها ، فإن المرضع إذا لم تكرم لا تهتم بالطفل ولا تُعنى بإرضاعه ولا بسائر شؤونه ، فأحسنوا معاملتهن ليحسنّ أمور أولادكم ، واتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن الله مطلّع عليكم لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وأنه مجازيكم عليها يوم الدين
(1/153)

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وقرأ مجاهد ( أن تَتمّ الرضاعةُ ) بالتاء وبرفع الرضاعة ، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة ( الرّضاعة ) بكسر الراء . قال الزجاج « الرّضاعة » بفتح الراء وكسرها والفتح أكثر .
2 - قرأ الجمهور { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( لا تضارّ ) بالرفع على أن ( لا ) نافية .
3 - قوله تعالى : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } قرأ الجمهور { آتَيْتُم } بالمد ، وقرأ ابن كثير { أتيتم } بالقصر .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الجار والمجرور خبر مقدم ، و ( رزقهن ) مبتدأ مؤخر وهو مضاف أي رزق المرضعات و ( بالمعروف ) متعلق بت ( رزقهن ) .
ثانياً - قوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } لا ناهية جازمة و ( تضارّ ) أصلها ( تضارر ) سكنت الراء الأخيرة للجزم والراء الأولى للإدغام فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح للتخلص من التقاء الساكنين و ( والدة ) فاعل والمفعول به محذوف تقديره : لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها .
ثالثاً - قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } استرضع يتعدى لمفعولين الثاني بحرف الجر والمعنى : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، حذف المفعول الأول لاستغناء عنه .
قال الواحدي : « أي أولادكم وحذف اللام اجتزاء بدلالة الاسترضاع لأنه لا يكون إلاّ الأولاد ، ونيظره قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم » .
وجه الارتباط في الآيات السابقة
مناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات ، أنه تعالى لما ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالنكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرجعة ، والعضل ، ذكر في هذه الآية الكريمة حكم الرضاع ، لأن الطلاق يحصل به الفراق ، فقد يطلّق الرجل زوجته ويكون لها طفل ترضعه ، وربما أضاعت الطفل أو حرمته الرضاع انتقاماً من الزوج وإيذاءً له ، لذلك وردت هذه الآية لندب الوالدات المطلّقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ورد الأمر بصيغة الخبر للمبالغة أي ليرضعن ، والجملة ظاهرها الخبر وحقيقتها الأمر كقول : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] والتعبير عنهن بلفظ ( الوالدات ) دون قوله : والمطلقات أو النساء المطلقات لاستعطافهن نحو الأولاد ، فحصول الطلاق لهن لا ينبغي أن يحرمن عاطفة الأمومة .
(1/154)

اللطيفة الثانية : العدول عن قوله : وعلى الوالد إلى قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } فيه لطيفة وهي أن الأولاد يتبعون الأب ويلتحقون بنسبه دون الأم ، فالموجب المقتضي للإنفاق على الأمهات والمرضعات كون الأولاد لهم فعليهم تجب النفقة ، واللفظ يشعر بالمنحة وشبه التمليك ولهذا أتى به دون لفظ الوالد .
قال الزمخشري : « فإن قلت : لم قيل ( المولود له ) دون الوالد؟ قلت : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات » .
اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : وصف الله تعالى الحولين بالكمال ( حولين كاملين ) دفعاً للمجاز الذي يحتمله ذكر الحولين ، إذ يقال : أقمتُ عند فلان حولين وإن لم يستكملهما ، وهي صفة توكيد كقوله تعالى : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] .
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أضاف الولد في الآية إلى كل من الأبوين { وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } و { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق ، فالولد ليس أجنبياً عن الوالدين ، هذه أمه وذاك أبوه ، فمن حقهما أن يشفقا عليه ، ولا تكون العداوة بينهما سبباً للإضرار بالولد .
قال العلامة أبو السعود : « إضافة الولد إلى كلٍ منهما لاستعطافهما إليه ، وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ، ولا ينبغي أن يضرا به أو يتضارّا بسببه » .
اللطيفة الخامسة : في قوله تعالى : { أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، وتلوين في التعبير لأن الآية قبله { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } جاء بضمير التثنية للغائب ، وهنا جاء بضمير الجمع للمخاطب ، وفائدة هذا الالتفات هز مشاهر الآباء إلى امتثال أمر الله في الأبناء .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالوالدات في الآية الكريمة؟
أ - قال بعضهم : لفظ الوالدات في الآية خاص بالمطلقات ، وهو قول مجاهد والضحاك ، والسدّي . واستدلوا بأن الآيات السابقة كانت في أحكام المطلقات وهذه وردت عقيبها تتمة لها ، وبأن الله أوجب على الوالد رزقهن وكسوتهن ، ولو كنّ أزواجاً لما كان هناك حاجة إلى هذا الإيجاب ، لأن النفقة واجبة على الزوج من أجل الزوجة ، ثم تعليل الحكم بالنهي على المضارّة بالولد يدل على أن المراد بالوالدات المطلقات ، لأنّ التي في عصمة الزوجية لا تضارّ ولدها .
ب - وقال بعضهم : إنه خالص بالوالدات الزوجات في حال بقاء النكاح ، وهو اختيار الواحدي كما نقله عنه الرازي والقرطبي ، ودليلهم أن المطلّقة لا تستحق الكسوة ، وإنما تستحق الأجرة فلما قال تعالى : { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } دلّ على أن المراد بهن الأمهات الزوجات .
ج - وقال آخرون : المراد بالوالدات العموم أي جميع الوالدات سواءً كنّ مزوجات أو مطلقات ، عملاً بظاهر اللفظ فهو عام ولا دليل على تخصيصه وهو اختيار القاضي أبو يعلى ، وأبو سليمان الدمشقي مع آخرين ، ولعل هذا القول هو الأرجح وقد ذهب إليه أبو حيان في « البحر المحيط » .
(1/155)

الحكم الثاني : هل يجب على الأم إرضاع ولدها؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها لظاهر قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } فهو أمر في صورة الخبر أي : ( ليرضعن أولادهن ) .
وهذا مذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجيّة فهو حق عليها إذا كانت زوجة ، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها ، أو إذا عُدم الأب ، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف ، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها ، والرضاع على الزوج إلاّ أن تشاء هي إرضاعه فهو أحق ، ولها أجرة المثل .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر هنا للندب ، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها إلاّ إذا تعينّت مرضعاً بأن كان لا يقبل غير ثديها ، أو كان الوالد عاجزاص عن استئجار ظئر ( مرضعة ) ترضعه ، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } [ الطلاق : 6 ] ولو كان الإرضاع واجباً لكلفها الشرع به ، وإنما ندب لها الإرضاع لأن لين الأم أصلح للطفل ، وشفقة الأم عليه أكثر .
الحكم الثالث : ما هي مدة الرضاع الموجب للتحريم؟
ذهب الجمهور الفقهاء ( مالك والشافعي وأحمد ) إلى أن الرضاع الذي يتعلق به حكم التحريم ، ويجري به مجرى النسب بقوله عليه السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هو ما كان في الحولين واستدلوا بقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين » .
وذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع المحرّم سنتان ونصف لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
قال العلامة القرطبي : « والصحيح الأول لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وهذا يدل على أن لا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين ، ولقوله عليه السلام : » لا رضاع إلا ما كان في الحولين « وهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له ، وقد روي عن عائشة القول به ، وبه يقول : ( الليث بن سعد ) وروي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير ، وروي عنه الرجوع عنه » .
الحكم الرابع : كيف تقدر نفقة المرضع؟
دل قوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } على وجوب النفقة للمرضع على الزوج ، والنفقة تكون على قدر حال الأب من السعة والضيق لقوله تعالى : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وقد دل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } [ الطلاق : 7 ] وأخذ الفقهاء من آية البقرة { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } وجوب النفقة الولد على الوالد ، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد ، فتجب نفقته على أبيه ا دام صغيراً لم يبلغ سن التكليف .
(1/156)

قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين :
أحدهما : أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين ، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه .
والثاني : أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان .
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم ، وهما جميعاً وارثان ، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث ، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره ، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار ، والكبار الزمني ، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه « .
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } ؟
واختلف المفسّرون في المراد من لفظ { الوارث } في الآية الكريمة على أقوال :
أ - قال بعضهم : المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات ، وهو قول عطاء ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة ، وقال آخرون : وارثه من الرجال أو النساء وهو قول ( أحمد ) وإسحاق ، وقال آخرون : وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود ، وهو قول ( أبي حنيفة ) وصاحبيه .
ب - وقال بعضهم : المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن ، والسُدّي .
ج - وقال بعضهم : المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري .
د - وقال آخرون : المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال .
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - على الأمهات إرضاع الأبناء ، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل .
2 - نسب الأولاد للآباء ، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق .
3 - النفقة على قدر طاقة الوالد عسراً ويسراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
4 - نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم .
5 - فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء ، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين ، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه ، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب . . وليس هناك لبن يعادل لبن الأم ، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها ، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه ، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم ، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه ، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ، ومعرفة أخلاقها وطبائعها ، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه ، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد ، فيكون دماً له ينموا به اللحم ، ويُنشز العظم ، فيؤثر فيه جسمياً وخلقياً ، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه ، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟!
والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب ، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان ، فينشأ مجبولاً على الرحمة ، محباً للخير ، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم ، يكونون معقّدين ، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام ، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية إلى هذا الأمر ، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن ، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع .
(1/157)

فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شؤونهم!! حتى الأمهات اللواتي فطرهن الله تعالى على التلذذ بإرضاع أولادهن والغبطة به ، قد صار نساء الأغنياء منهن في هذا الزمان يرغبن عنه ترفعاً وطمعاً في السمن وبقاء الجمال وكل هذا مقام لسنة الفطرة ، ومفسد لتربية الأولاد ، ولسنا نرى ديناً تعرض لمحاسن تربية النشء مثل ما تعرض له الإسلام ، فاللهم وفقنا للاهتداء بهديه الكريم إنك سميع مجيب الدعاء .
(1/158)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
التحليل اللفظي
{ يُتَوَفَّوْنَ } : أي يموتون ويُقبضون قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي : أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات فقد استوفى عمره ورزقه .
قال أبو السعود : « أي تقبض أرواحهم بالموت ، فإن التوفي هو القبض يقال : توفيت مالي أي قبضته » .
وقال الإمام الفخر : « يقال : توفىّ فلان ، وتُفي إذا مات ، فمن قال : تُوفّى كان معناه قُبض وأخذ ، ومن قال : تَوفّى كان معناه أجله واستوفى عمره » .
{ وَيَذَرُونَ } : أي يتركون ، وهذا الفعل لا يستعمل منه الماضي ولا المصدر ، ومثله ( يدع ) ليس له ماضٍ ولا مصدر ، يقال : فلان يَدع كذا ويَذر ، ويأتي منهما الأمر يقال : دعْهُ وذرْه قال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] .
{ أَزْوَاجاً } : الأزواج هاهنا : النساء ، والعرب تسمي الرجل زوجاً وامرأته زوجاً له ، وربما ألحقوا بها الهاء فقالوا : زوجة وهو خلاف الأفصح .
{ يَتَرَبَّصْنَ } : التربص الانتظار ومنه قوله تعالى : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] وقد تقدم .
{ بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } : الأجل : المدة المضروبة للشيء ، ويقال للمدة المضروبة لحياة الإنسان : أجل قال تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ . . . } [ الأعراف : 34 ] والمراد هنا : انقضاء العدة .
{ خَبِيرٌ } : الخبير العالم بالأمور خفيّها وجليّها الذي لا تخفى عليه خافية .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : الذين يموتون من رجالكم ، ويتركون أزواجهم بعد الموت ، على هؤلاء الزوجات أن ينتظرن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرة أيام ، يمكثن في العدة حداداً على أزواجهن ، فلا يتعرضن للخُطَّاب ، ولا يتزينن ولا يتطيّبن ، ولا يخرجن من بيوت أزواجهن ما دُمْن في العدة فإذا انقضت عدتهن فلا جناح ولا إثم عليكم أيها الأولياء في تركهنّ أن يتزوجن ، ويفعلن ما أباحه لهن الشرع من الزينة والتطيب ، والله عليم بأعمالكم . خبير بأفعالكم ، لا تخفى عليه خافية فاتقوه وأطيعوه في ما أمركم به ، ومنه الحداد على الأزواج .
وجوه الإعراب
قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } في إعرابه وجهان :
أحدهما أن { والذين } مبتدأ ، و { يُتَوَفَّوْنَ } مضارع مبني للمجهول ، والخبر محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون .
والثاني : أن المبتدأ محذوف و ( الذين ) قام مقامه تقديره : وأزواج الذين يتوفون منكم ، ودل على المحذوف قوله : { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } والخبر { يَتَرَبَّصْنَ } .
قال الطبري : « فإن قال قائل : فأين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل : متروك لأنه لم يقصد الخبر عنهم ، وإنما قصد الخبر عن الواجب على المعتدات في وفاة أزواجهن ، فصرف الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم ، وهو نظير قول الشاعر :
لعلّي إنْ مالتْ بي الريحُ ميلة ... على ابن أبي زبّان أن يتندما
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الفصيح المستعمل في التعبير عن الموت أن يقال : تُوفي فلان ، بالبناء للمفعول ، والتعبير باسم الفاعل يعده البعض لحناً ، لأنه مقبوضٌ لا قابض ، وقد روي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان خلف جنازة ، فقال له رجل : من المُتَوفّي؟ فقال : » اللهُ تعالى « وكان هذا من أسباب وضع أحكام النحو .
(1/159)

اللطيفة الثانية : الزوج يطلق على الذكر والأنثى ، وهو في الأصل العدد المكّون من اثنين ، وسمي كل من الرجل والمرأة ( زوجاً ) لأن حقيقة الزوج مكونة من شيئين اتحدا فصارا شيئاً واحداً ، ولهذا وضع لهما لفظ واحد ، فهما في الظاهر شيئان ، وفي الباطن شيء واحد ، ومقتضى الزوجية أن يتحدا حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر .
اللطيفة الثالثة : روى ابن جرير الطبري عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن امرأة توفي عنها زوجها ، واشتكت عينها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل فقال لها : « لقد كانت إحداكنّ تكون في شر أحلاسها ، فتمكث في بيتها في بيتها حولاً إذا توفي زوجها ، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة ، أفلا أربعة أشهر وعشراً؟! » اللطيفة الرابعة : الحكمة في تحديد عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر أيام ، هي أن الغاية الأصلية معرفة براءة الرحم ، والجنين يتكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم أربعين يوماً علقه ، ثم أربعين يوماً مضغة ، كما دل على ذلك الحديث الصريح الصحيح ، فهذه مائة وعشرون يوماً ، ثم تنفخ فيه الروح بعد هذه المدة ، فزيدت العشر لذلك ، وقد سئل أبو العالية : لم ضمت العشر إلى الأربعة أشهر؟ فقال : لأن الروح فيها تنفخ .
الحكم الأول : هل الآية ناسخة لآية الاعتداد بالحول؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] فقد كانت العدة حولاً كاملاً ، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر ، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في ( التلاوة ) على آية الاعتداد بالحول ، إلاّ أنها متأخرة في ( النزول ) فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول بل هو توقيفي فتكون ناسخة ، وذهب بعضهم إلى أنه ليس في الآية نسخ ، وإنما هو نقصان من الحول كصلاة المسافر لما نقصت من أربع إلى اثنين لم تكن نسخاً وإنما كانت تخفيفاً .
قال القرطبي : « وهذا غلطٌ بيّن ، لأنه إذا كان حكمها أن تعتد سنة ، ثم أزيل هذا ولزمتها العدة أربعة أشهر وعشراً فهذا هو النسخ ، وليست صلاة المسافر من هذا في شيء » .
الحكم الثاني : ما هي عدة الحامل المتوفي عنها زوجها؟
عدة الحامل المتوفي عنها زوجها ( وضع الحمل ) لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] فالآية هذه قد خصّصت العموم الوارد في قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ . . . } وهذا قول جمهور العلماء .
وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الحامل تعتدّ بأبعد الأجلين ، بمعنى أنها إذا كانت حاملاً فوضعت الحمل ولم تنته مدة العدة ( أربعة أشهر وعشر ) تبقى معتدة حتى تنتهي المدة ، وإذا انتهت المدة ولم تضع الحمل تنتظر حتى وضع الحمل ، فإذا قعدت أبعد الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين ، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة ، والجمع أولى من الترجيح .
(1/160)

قال القرطبي : وهذا نظرٌ حسن لولا ما يعكر عليه من حديث ( سبيعة الأسلمية ) وهو في الصحيح .
حجة الجمهور :
استدل الجمهور على أن عدة الحامل وضع الحمل بالكتاب والسنة :
أ - أما الكتاب فقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ، فهذه عامة في المطلّقة والمتوفى عنها زوجها ، وقد جعل الله العدة فيها بوضع الحمل .
ب - وأما السنة فما روي عن ( سُبيعة الأسلمية ) أنها كانت تحت ( سعد بن خولة ) وهو ممن شهد بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنْشبْ ( أي تلبث ) أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلّت من نفاسها ( أي طهرت من دم النفاس ) تجمّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة ، لعلّك ترجِّينَ النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمرّ عليك أربعة أشهر وعشر . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعتُ عليّ ثيابي حين أمسيتُ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللْتُ حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزوج إن بدا لي « .
قال ابن عبد البر : » وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث ( سُبيْعة ) لمّا احتُج به عليه ، قال : ويصحّح ذلك أن أصحابه أفتوا بحديث سُبيْعة كما هو قول أهل العلم قاطبة « .
وقال القرطبي : » فبيّن الحديثُ أن قوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] محمول على عمومه في المطلقات ، والمتوفّى عنهن أزواجهن ، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنْفين ، ويعتضد هذا بقول ابن مسعود : « من شاء باهلته ، إن آية النساء القصرى نزلت بعد آية عدة الوفاة » .
الحكم الثالث : ما هو الإحداد ، وكم تحد المرأة على زوجها؟
أوجبت الشريعة الغراء أن تحد المرأة على زوجها المتوفى مدة العدة وهي ( أربعة أشهر وعشر ) ويجوز لها أن تحد على قريبها الميت ثلاثة أيام ، ويحرم عليها أن تحد عليه فوق ذلك ، لما روي في « الصحيحين » عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرة خلوق وغيره فدهنت منه جارية ثم مسّت بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً » .
(1/161)

معنى الإحداد : والإحداد هو ترك الزينة ، والتطيب ، والخضاب ، والتعرض لأنظار الخاطبين ، وهو إنما وجب على الزوجة وفاءٌ للزوج ، ومراعاة لحقه العظيم عليها ، فإن الرابطة الزوجية أقدس رباط ، فلا يصح شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وقد كانت المرأة تحد على زوجها حولاً كاملاً تفجعاً وحزناً على زوجها ، فنسخ الله ذلك وجعله أربعة أشهر وعشراً .
روى البخاري ومسلم « عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله : » إنّ ابنتي تُوفّي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال : لا ، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا! ثم قال : إنما هي أربعة أشهر ، وقد كانت إحداكنّ في الجاهلية تمكث سنة « قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمسّ طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو شاة فتفتضّ بها ، فقلما تفتضّ بشيء إلا مات .
وقد استنبط بعض العلماء وجوب الإحداد من قوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ } أي من زينةٍ وتطيب ، فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو استنباط حسن دقيق ، وقال بعضهم : الإحداد يكون بالتربص عن الأزواج والنكاح خاصة وهو ضعيف .
قال ابن كثير : » والإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك ، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً ، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً ، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان ، ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة ، والآيسة ، والحرة ، والأمة ، والمسلمة ، والكافرة لعموم الآية « .
الحكم الرابع : لماذا شرعت العدة على المرأة؟
ذكر العلماء لحكمة مشروعية العدة وجوهاً عديدة نجملها فيما يلي :
أ - معرفة براءة الرحم حتى لا تختلط الأنساب بعضها ببعض .
ب - للتعبد امتثالاً لأمر الله عز وجل حيث أمر بها النساء المؤمنات .
ج - إظهار الحزن والتفجع على الزوج بعد الوفاة اعترافاً بالفضل والجميل .
د - تهيئة فرصة للزوجين ( في الطلاق ) لإعادة الحياة الزوجية عن طريق المراجعة .
ه - التنويه بفخامة أمر النكاح حيث لا يتم إلا بانتظار طويل ، ولولا ذلك لأصبح بمنزلة لعب الصبيان ، يتم ثم ينفك في الساعة .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
فرض الله العدة على المسلمة ، حفاظاً على كرامة الأسرة ، ورعاية لها من التحلل والتفكك واختلاط الأنساب ، وإحداداً على الزوج بإظهار التفجع والحزن عليه بعد الوفاة ، احتراماً للرابطة المقدسة ( رابطة الزواج ) واعترافاً بالفضل والجميل لمن كان شريكاً في الحياة ، وقد كانت العدة في الجاهلية حولاً كاملاً ، وكانت المرأة تحد على زوجها شرّ حداد وأقبحه ، فتلبس شرّ ملابسها ، وتسكن شر الغُرف وهو ( الحفش ) وتترك الزينة والتطيب والطهارة ، فلا تمسّ ماءًن ولا تقلّم ظفراً ، ولا تزيل شعراً ، ولا تبدو للناس في مجتمعهم ، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر ، وأنتن رائحة ، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقاراً لهذه المدة التي قضتها ، وتعظيماً لحق زوجها عليها .
(1/162)

فلما جاء الإسلام أصلح هذه الحال ، فجعل الحداد رمز ( طهارة ) لا رمز ( قذارة ) ، وجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه ، ولم يحرّم إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدي الزواج ، دون النظافة والطهارة فإنهما شعار المسلم ، وأباح له الجلوس في كل مكان من البيت ، كما أباح لها الاجتماع مع النساء والمحارم من الرجال . ونساء المسلمين اليوم لا يسرن على هدي الإسلام في الحداد ، فمنهن من تغالي في الحداد ، وتغرق في النوح والندب ، والخروج على المألوف من العادات ، في اللباس والطعام والشراب ، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع ، بل ربما حددن على آبائهن أو أولادهن السنة والسنتين ، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين .
فالخير كل خير في إصلاح هذه العادات الرديئة في الحداد ، إذ لا فائدة فيها إلاّ إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش ، وفساد آداب المعاشرة ، ولا سبيل إلاّ بالعودة لأحكام الشرع بالحداد ثلاثة أيام على القريب ، وأربعة أشهر وعشراً على الزوج ، وجعل الحداد مقصوراً على ترك الزينة والطيب والخروج من المنزل .
(1/163)

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
[ 19 ] خطبة المرأة واستحقاق المهر
التحليل اللفظي
{ عَرَّضْتُمْ } : التعريض : الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار ، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح ، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه .
قال في « اللسان » : وعرّض بالشيء : لم يبيّنه ، والتعريض خلاف التصريح ، والمعاريض : التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث : « إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب » والتعريضُ في خِطْبة المرأة : أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول : إنك لجميلة ، وإنك لنافقة ، وإنك إلى خير ، كما يقول المحتاج للمعونة : جئت لأسلّم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضينا ... { خِطْبَةِ النسآء } : الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح ، وبالضم معناها : ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة ، وفي الحديث « لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه » .
{ أَكْنَنتُمْ } : سترتم وأضمرتم ، والإكنان : السرّ والخفاء .
قال ابن قتيبة : أكننتُ الشيء : إذا سترته ، وكنتُه : إذا صُنته ، ومنه قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] .
{ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } : المراد بالسر هنا : النكاح ذكره الزجاج وأنشد :
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنف القصاع
قال ابن قتيبة : استعير السرّ للنكاح ، لأن النكاح يكون سراً بين الزوجين .
والمعنى : لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحاً .
{ عُقْدَةَ النكاح } : العُقدة من العقد وهو الشدُ ، وفي المثل : ( يا عاقدُ اذكر حلاً ) .
قال الراغب : العُقدة : اسم لما يعقد من نكاح ، أو يمين ، أو غيرهما .
وقال الزجاج معناه : لا تعزموا على عقدة النكاح ، حذفت ( على ) استخافاً كما قالوا : ضرب زيد الظهر والبطن ، معناه : على الظهر والبطن .
{ أَجَلَهُ } : أي نهايته ، والمراد بالكتاب : الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة .
ومعنى قوله : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } : أي حتى تنقضي العدة .
{ فاحذروه } : أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره ، وفيه معنى التهديد والوعيد .
{ حَلِيمٌ } : يمهل العقوبة فلا يعجّل بها ، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل .
{ الموسع } : الذي يكون في سعة لغناه ، يقال أوسع الرجل : إذا كثر ماله .
{ المقتر } : الذي يكون في ضيق لفقره ، يقال : أقتر الرجل : إذا افتقر ، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة .
{ تَمَسُّوهُنَّ } : المسّ : إمساك الشيء باليد ، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ .
قال الراغب : المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس ، وكنيّ به عن الجماع فقيل : مسّها وماسّها قال تعالى : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عمران : 47 ] .
{ فَرِيضَةً } : الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد ، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله .
{ يَعْفُونَ } : معناه : يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر .
المعنى الإجمالي
بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه : « لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال ، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات ، بطريق التلميح لا التصريح ، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن ، والرغبة في الزواج بهن ، ولا يؤاخذكم على ذلك ، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة ، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف ، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام ، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة ، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه .
(1/164)

ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس ، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول ، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور ، وأمر بدفع المتعة لهن تطيباً لخاطرهن ، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر ، وجعله نوعاً من الإحسان لجبر وحشة الطلاق ، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر ، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض ، إلا إذا أسقطت حقها ، أو دفع الزوج لها كامل المهر ، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة .
ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة ، والإحسان ، والجميل بين الزوجين ، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة ، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى .
سبب النزول
قال الخازن في « تفسيره » : « نزلت هذه الآية { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } في رجل من الأنصار ، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً ، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوتك » .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } وقرأ حمزة والكسائي ( تُماسُوهنّ ) بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة .
2 - قرأ الجمهور { عَلَى الموسع قَدَرُهُ } بالرفع ، وقرأ ابن كثير ونافع ( قدْرُه ) بسكون الدال .
3 - قرأ الجمهور { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } وقرئ ( وأن يَعْفوا ) بالياء .
وجوه الإعراب
أولاً - قوله تعالى : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } لكنْ حرفُ استدراك ، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن و ( سرّاً ) مفعول به لأنه بمعنى النكاح ، أي لا تواعدوهنّ نكاحاً ، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين ، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سراً .
ثانياً - قوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح .
ثالثاً - قوله تعالى : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما : مصدرية والزمان معها محذوف تقديره : في من ترك مستهنّ ، وقيل : ( ما ) شرطية أي ( إن لم تمسوهن ) .
رابعاً - قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم ، و ( ما ) اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه .
(1/165)

لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أباح القرآن ( التعريض ) في خطبة المعتدة دون التصريح ، ومن صور التعريض أن يقول : إنك لجميلة ، أو صالحة ، أو نافقة ، أو يذكر الشخص مآثره أمامها .
روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته ( سُكينة بنت حنظلة ) قالت : « دخل عليّ ( أبو جعفر ) محمد بن علي وأنا في عدتي ، فقال : أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدي عليّ ، وقدمي في الإسلام ، فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدتي ، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال : أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حين توفي عنها زوجها ( أبو سلمة ) فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله ، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة » .
اللطيفة الثانية : قال الزمخشري : « السرّ في الآية { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر ، قال الأعشى :
ولا تقربَنْ من جارةٍ إنّ سرّها ... عليك حرامٌ فانكحنْ أو تأبدا
ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد ، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح .
اللطيفة الثالثة : ذكر العزم في الآية { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى .
اللطيفة الرابعة : عبّر تعالى بالمساس عن الجماع ، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم .
قال أبو مسلم : » وإنما كنّى تعالى بقوله : { تَمَسُّوهُنَّ } عن المجامعة ، تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به « .
اللطيفة الخامسة : الخطاب في قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } وفي قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } للرجال والنساء جميعاً ورد بطريق التغليب .
قال الفخر : » إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور ، لأن الذكورة أصل ، والتأنيث فرع ، ألا ترى أنك تقول : قائم ثم تريد التأنيث فتقول : قائمة « .
اللطيفة السادسة : الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق ، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال .
قال ابن عباس : إن كان موسراً متّعها بخادم ، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب .
اللطيفة السابعة : روي أن ( الحسن بن علي ) متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة :
متاعٌ قليلٌ من حبيب مفارق ... وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ ( عائشة الخثعمية ) كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب ، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت : لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال : يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثاً ، فتلفعت بجلبابها ، وقعدت حتى انقضت عدتها ، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة ، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت :
(1/166)

متاع قليل من حبيب مفارق ... فلما أخبره الرسول بكى وقال : لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم خطبة النساء؟
النساء في حكم ( الخِطْبة ) على ثلاثة أقسام :
أحدها : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً وتصريحاً ) وهي التي ليست في عصمة أحد من الأزواج ، وليست في العدة ، لأنه لمّا جاز نكاحها جازت خطبتها .
الثاني : التي لا تجوز خطبتها ( لا تصريحاً ، ولا تعرضاً ) وهي التي في عصمة الزوجية ، فإنّ خطبتها وهي في عصمة آخر إفساد للعلاقة الزوجية وهو حرام ، وكذلك حكم المطلّقة رجعياً فإنها في حكم المنكوحة .
الثالث : التي تجوز خطبتها ( تعريضاً ) لا ( تصريحاً ) وهي المعتدة في الوفاة ، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } ومثلها المعتدة البائن المطلّقة ثلاثاً فيجوز التعريض لها دون التصريح .
والدليل على حرمة التصريح ما قاله الشافعي رحمه الله : « لمّا خُصّص التعريض بعدم الجناح ، وجب أن يكون التصريح بخلافه » وهذا الاستدلال دلّ عليه مفهوم المخالفة .
الحكم الثاني : هل النكاح في العدة صحيح أم فاسد؟
حرّم الله النكاح في العدة ، وأوجب التربص على الزوجة ، سواءً كان ذلك في عدة الطلاق ، أو في عدة الوفاة ، وقد دلت الآية وهي قوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } على تحريم العقد على المعتدة ، واتفق العلماء على أن العقد فاسد ويجب فسخه لنهي الله عنه . وإذا عقد عليها وبنى بها فُسخ النكاح ، وحرمت على التأبيد عند ( مالك وأحمد ) فلا يحل نكاحها أبداً عندهما لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ، ولأنه استحلّ ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من الميراث .
وقال أبو حنيفة والشافعي : يُفسخ النكاح ، فإذا خرجت من العدة كان العاقد خاطباً من الخطاب ، ولم يتأبد التحريم ، لأنّ الأصل أنها لا تحرم إلا بدليل من كتابٍ ، أو سنةٍ ، أو إجماع ، وليس في المسألة شيء من هذا ، وقالوا : إنّ الزنى أعظم من النكاح في العدة ، فإذا كان الزنى لا يحرمها عليه تحريماً مؤبداً ، فالوطء بشبهة أحرى بعدم التحريم ، وما نقل عن عمر فقد ثبت رجوعه عنه .
قضاء عمر رضي الله عنه في الحادثة
روى ابن المبارك بسنده عن مسروق أنه قال : « بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها ، فأرسل إليهما ففرّق بينهما وعاقبهما ، وقال : لا ينكحْها أبداً ، وجعل الصداق في بيت المال ، وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال : يرحم الله أمير المؤمنين! ما بال الصداق وبيت المال! إنما جهلا فينبغي أن يردهما السنة . قيل : فما تقول أنت فيهما؟ قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثم يخطبها إن شاء .
(1/167)

فبلغ ذلك عمر فقال : يا أيها الناس ردّوا الجهالات إلى السنة « .
الحكم الثالث : ما هو حكم المطلقة قبل الدخول؟
وضحّت الآيات الكريمة أحكام المطلقات ، وذكرت أنواعهنّ وهنّ كالتالي :
أولاً : مطّلقة مدخول لها ، مسمّى لها المهر .
ثانياً : مطلّقة غير مدخول بها ، ولا مسمّى لها المهر .
ثالثاً : مطلّقة غير مدخول بها ، وقد فرض لها المهر .
رابعاً : مطلّقة مدخول بها ، وغير مفروض لها المهر .
فالأولى ذكر الله تعالى حكمها قبل هذه الآية ، عدّتُها ثلاثة قروء ، ولا يُسترد منها شيء من المهر { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] .
والثانية : ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية ، ليس لها مهرٌ ، ولها المتعة بالمعروف لقوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ . . . } [ البقرة : 236 ] الآية كما أن هذه ليس عليها عدة باتفاق لقوله تالى في سورة الأحزاب [ 49 ] { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } > والثالثة : ذكرها الله تعالى بعد هذه الآية ، لها نصف المهر ولا عدة عليها أيضاً لقوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } .
والرابعة : ذكرها الله تعالى في سورة النساء [ 24 ] بقوله : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] فهذه يجب لها مهر المثل . قال الرازي ويدل عليه أيضاً القياس الجلي ، فإن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بشبهة لها مهر المثل ، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذه الحكم .
الحكم الرابع : هل المتعة واجبة لكل مطلّقة؟
دل قوله تعالى : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } على وجوب المتعة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض ، وقد اختلف الفقهاء هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟
فذهب ( الحسن البصري ) إلى أنها واجبة لكل واجبة لكل مطلّقة للعموم في قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] .
وقال مالك : إنها مستحبة للجميع وليست واجبة لقوله تعالى : { حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] و { حَقّاً عَلَى المحسنين } ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين .
وذهب الجمهور ( الحنفية والشافعية والحنابلة ) إلى أنها واجبة للمطلّقة التي لم يفرض لها مهر ، وأمّا التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة وهذا مروي عن ( ابن عمر ) و ( ابن عباس ) و ( علي ) وغيرهم ، ولعله يكون الأرجح جمعاً بين الأدلة والله أعلم .
الحكم الخامس : ما معنى المتعة وما هو مقدارها؟
المتعة : ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة أو متاع لزوجته المطلّقة ، عوناً لها وإكراماً ، ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها ، وتقديرُها مفوض إلى الاجتهاد .
قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها .
(1/168)

وقال الشافعي : المستحب على الموسم خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة .
وقال أبو حنيفة : أقلها درع وخمار وملحفة ، ولا تزاد على نصف المهر .
وقال أحمد : هي درع وخمار بقدر ما تجزئ فيه الصلاة ، ونقل عنه أنه قال : هي بقدر يسار الزوج وإعساره { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ } وهي مقدرة باجتهاد الحاكم ، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - جواز التعريض في خطبة المعتدة من الوفاة ومن الطلاق البائن .
2 - حرمة عقد النكاح على المعتدّة في حالة العدة وفساد هذا العقد .
3 - المتعة واجبة لكل مطلّقة لم يذكر لها مهر ، ومستحبة لغيرها من المطلقات .
4 - إباحة تطليق المرأة قبل المسيس إذا كانت ثمة ضرورةٌ ملحة .
5 - المطلّقة قبل الدخول لها نصف المهر إذا كان المهر مذكوراً .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الباري جل وعلا المتعة للمطلّقة ، وجعلها على قدر حال الرجل يساراً وإعساراً ، وهذه ( المتعة ) واجبة للمطلّقة قبل الدخول ، التي لم يُسمّ مهر ، ومستحبة لسائر المطلقات . والحكمة في شرعها أنّ في الطلاق قبل الدخول امتهاناً للمرأة وسوء سمعة لها ، وفيه إيهامٌ للناس بأن الزوج ما طلّقها إلاّ وقد رابه شيء منها في سلوكها وأخلاقها ، فإذا هو متّعها متاعاً حسناً تزول هذه الغضاضة ، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قِبَله ، لا من قِبَلها ، ولا علة فيها ، فتحفظ بما كان لها من صيتٍ وشهرة طيبة ، ويتسامع الناس فيقولون : إن فلاناً أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر ، وهو معترف بفضلها مقر بجميلها ، فيكون هذا المتاع الحسن بمنزلة الشهادة بنزاهتها ، ويكون أيضاً كالمرهم لجرح القلب ، وجبر وحشة الطلاق .
وقد أمرنا الإسلام أن نحافظ على الأعراض بقدر الطاقة ، وأن نصون كرامة الناس عن القيل والقال ، ولهذا أمر حتى في حالة الطلاق الذي يسبّب في الغالب النزاع والبغضاء بأن لا ننسى الجميل والمودة والإحسان { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 237 ] فإن الروابط في النكاح والمصاهرة روابط مقدسة ، فينبغي لمن تزوج من أسرة ثم طلّق ، ألاّ ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم ، فأين نحن المسلمين من هدي هذا الكتاب المبين؟! وأين نحن من إرشاداته الحكيمة ، وآدابه الفاضلة؟!
(1/169)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
[ 20 ] الربا جريمة اجتماعية خطيرة
{ الرباوا } : الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال ربا الشيء يربو : إذا زاد ، ومنه قوله تعالى : { اهتزت وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] أي زادت ، وفي الحديث « إلاّ رَبَا من تحتها » أي زاد الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة ، وأربى الرجل : إذا تعامل بالربا .
وفي الشرع : زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل .
{ يَتَخَبَّطُهُ } : التخبط معناه الضرب على غير استواء كخبط البعير الأرض بيده ، ويقال للذي يتصرف في أمرٍ ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء ، وتخبّطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون ، وتسمّى إصابة الشيطان خبطة .
{ المس } : الجنون يقال : مُسّ الرجل فهو ممسوس وبه مسٌ ، وأصله من المسّ باليد ، كأن الشيطان يمسّ الإنسان فيحصل له الجنون .
قال الراغب : وكنّي بالمس عن الجنون ، وفي قوله : « يتخبطه الشيطان من المس » والمسّ يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى .
{ مَوْعِظَةٌ } : الموعظة : بمعنى الوعظ وهو التذكير بالخير فيما يرق له القلب .
{ سَلَفَ } : أي مضى وتقدم ، والمعنى : من انتهى عن التعامل بالربى فإن الله تعالى يعفو ويصفح عمّا مضى من ذنبه قبل نزول آية التحريم .
{ يَمْحَقُ } : المحق : النقص والذهاب ، ومنه المحاق في الهلال يقال : محقه إذا أنقصه وأذهب بركته والمراد أن الله أوعد المرابي بإذهاب ما له وإهلاكه وفي الحديث الشريف : « إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ » .
{ وَيُرْبِي الصدقات } : أي يزيدها وينميها ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة .
{ أَثِيمٍ } : أي كثير الإثم وهو المتمادي في ارتكاب المعاصي ، المصر على الذنوب .
{ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } : أي أيقنوا بحربٍ من الله ورسوله ، وهذا وعيد لمن لم يذر الربى .
{ ذُو عُسْرَةٍ } : العُسرة الفقر والضيق يقال : أعسر الرجل إذا افتقر .
{ فَنَظِرَةٌ } : أي فواجب تأخيره وانتظاره يقال : أنظره إذا أمهله وأخره .
{ مَيْسَرَةٍ } : أي غنى ويسار ، والمعنى : إذا كان المستدين معسراً فأخروه إلى وقت السعة والغنى ولا تأخذوا منه إلا رأس المال .
المعنى الإجمالي
يخبر الولي جل وعلا المرابين ، الذي يتعاملون بالربا فيمتصون دماء الناس ، بأنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة ، إلاّ كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ، يتعثر ويقع ولا يستطيع أن يمشي سوياً ، لأن به مساً من الشيطان ، ذلك التخبط والتعثر بسبب أنهم استحلوا الربا الذي حرّمه الله ، فقالوا : الربا مثل البيع فلماذا يكون حراماً؟ وقد ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة السقيمة بأن البيع تبادل منافع وقد أحلّه الله ، والربا زيادة مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه وقد حرمه الله ، فكيف يتساويان؟!
ثم أخبر تعالى بأن من جاءته الموعظة والذكرى ، فانتهى عمّا كان قبل التحريم ، فإن الله عز وجل يعفو ويغفر له ، ولا يؤاخذه عمّا أخذ من الربا ، وأمّا من تعامل بالربا بعد نهي الله عنه فإنه يستوجب العقوبة الشديدة بالخلود في نار جهنم لاستحاله ما حرمه الله .
(1/170)

وقد أوعد الله المرابي بمحق ماله ، إمّا بإذهابه بالكلية ، أو بحرمانه بركة ماله ، « فالربا وإن كثر فعاقبته إلى قلّ » كما بيّن صلوات الله وسلامه عليه ، فلا بدّ أن يزهقه الله ويمحقه لأنه خبيث { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] وأمّا المتصدّق فالله يبارك له في ماله وينميّه ، والله لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل . ثمّ جاء الوعيد والتهديد الشديد لمن تعامل بالربا ، وخاصة إذا كان هذا الشخص من المؤمنين ، فالربا والإيمان لا يجتمعان ، ولهذا أعلن الله الحب على المرابين { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } .
فأي مسلم يسمع مثل هذا الوعيد ثم يتعامل بالربا؟! اللهم احفظنا من هذه الجريمة الشنيعة ، وطهّرنا من أكل السحت والتعامل بالربا إنك سميع مجيب الدعاء اللهم آمين .
سبب النزول
1 - كان العباس وخالد بن الوليد شريكين في الجاهلية ، يسلفان في الربا إلى ناسٍ من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا إنّ كل رباً من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العباس ، وكل دم من دم الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب » .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } وقرأ حمزة وعاصم ( فآذنوا بحرب ) بالمد .
قال الزجاج : من قرأ { فَأْذَنُواْ } بالقصر ، فالمعنى : أيقنوا ، ومن قرأ بالمد فمعناه أعلموا .
2 - قرأ الجمهور { لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } وروي عن عاصم بضم الأولى وفتح الثانية .
3 - قرأ الجمهور { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } بتسكين السين ، وضمها أبو جعفر ( عُسُرة ) .
4 - قرأ الجمهور { يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } بضم التاء ، وقرأ أبو عمرو بفتحها ( تَرْجعون ) .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ الرباوا } مبتدأ وجملة { لاَ يَقُومُونَ } خبره ، والكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف تقديره : إلاّ قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان .
ثانياً : قوله تعالى : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جواب الشرط محذوف تقديره : إن كنتم مؤمنين فذروا .
ثالثاً : قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } كان هنا تامة بمعنى إن حدث ذو عسرة .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : المراد بالأكل في الآية الكريمة مطلق الأخذ والتصرف ، وعبّر به هنا { الذين يَأْكُلُونَ الرباوا } لأنه الغرض الأساسي من المال ، وما عداه من سائر الوجوه فتبع ، وقد شاع هذا الإطلاق يقال لمن تصرف في مال غيره بدون حق : أكله ، وهضمه .
(1/171)

اللطيفة الثانية : تشبيه المرابين بالمصروعين ، الذين يتخبطهم الشيطان ، فيه لطيفة وهي أن الله عزّ وجل أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم ، فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون وتلك سيماهم يوم القيامة يعرفون بها ، قال سعيد بن جبير : تلك علامة آكل الربا يوم القيامة .
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرباوا } تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه المقلوب ) وهو أعلى مراتب التشبيه حيث يصبح المشبّه مشبهاً به مثل قولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفه ، على حدّ قول القائل :
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها ... سوى أنّ عظم الساق منك دقيق
ومقصودهم تشبيه الربا بالبيع المتفق على حله ، ولكنّه بلغ اعتقادهم في حل الربا ، أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل ، حتى شبّهوا به البيع ، فتدبّره فإنه دقيق .
اللطيفة الرابعة : النكتة في الآية الكريمة { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات } أنّ المرابي يطلب الربا زيادة المال ، ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال ، فبيّن سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء ، وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان ، والزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين .
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } تنكير الحرب للتفخيم وقد زادها فخامة وهؤلاً ، نسبتُها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته صلى الله عليه وسلم ، أي أيقنوا بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره ، كائن من عند الله ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبداً ، وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكل الربا .
قال ابن عباس : يقال الآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب .
اللطيفة السادسة : قوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } صيغة كفّار ( فعّال ) وصيغة أثيم ( فعيل ) كلاهما من صيغ المبالغة معناهما كثير الكفر والإثم ، وفي الآية تغليظ لأمر الربا ، وإيذانٌ بأنه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين .
اللطيفة السابعة : رغّب الله تعالى في إنظار المستدين المعسر { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } وكذلك جاءت السنة المطهرة فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كان رجلٌ يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه لعلّ الله أن يتجاوز عنّا ، فلقي الله فتجاوز عنه » .
قال المهايمي : « فإذا استوفى الدائن حقه بالتضييق على المديون ، استوفى الله منه حقوقه بالتضييق ، وإن سامحه فالله أولا بالمسامحة » .
اللطيفة الثامنة : قال بعض العلماء : من تأمل هذه الآيات وما اشتملت عليه من عقوبة أهل الربا ومستحليه ، أكبَرَ جرمَهُ وإثمه ، فقد ترتب عليه قيامهم في الحشر مخبلين ، وتخليدهم في النار ، ونبذهم بالكفر ، والحرب من الله ورسوله ، واللعنة الدائمة لهم ، وكذلك الذم والبغض ، وسقوط العدالة وزوال الأمانة ، وحصول القسوة والغلظة ، والدعاء عليه ممن ظلمه ، وذلك سبب لزوال الخير والبركة ، فما أقبح هذه المعصية ، وأعظم جرمها ، وأشنع عاقبتها؟!
اللطيفة التاسعة : ختمت آيات الربا بهذه الآية الكريمة { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وهي آخر آية نزلت من القرآن ، وعاش بعدها النبي صلى الله عليه وسلم تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى ، وفي هذه الآية تذكير بالوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين
(1/172)

{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] وبنزول هذه الآية انقطع الوحي ، وكان ذلك آخر اتصال السماء بالأرض .
« الأدوار التي مرّ بها تحريم الربا »
من المستحسن أن نذكر هنا الأدوارالتي مرّ بها تحريم الربا ، حتى ندرك سر التشريع الإسلامي ، في معالجته للأمراض الاجتماعية ، فنم المعلوم أن التشريع الإسلامي سار ( بسُنّة التدرج ) في تقرير الأحكام .
ولقد مرّ تحريم « الربا » بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر ، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج :
الدول الأول : نزل قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } [ الروم : 39 ] وهذه الآية الكريمة نزلت في مكة وهي - كما يظهر - ليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا وإنما فيها إشارة إلى بغض الله للربا ، وأن الربا ليس له ثواب عند الله فهي إذن ( موعظة سلبية ) .
الدورالثاني : نزل قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } [ النساء : 160-161 ] وهذه الآية مدنية ، وهي درس قصه الله سبحانه علينا من سيرة اليهود الذي حرم عليهم الربا فأكلوه واستحقوا عليه اللعنة والغضب ، وهو تحريم ( بالتلويح ) لا ( بالتصريح ) لأنه حكاية عن جرائم اليهود وليس فيه ما يدل دلالة قطعية على أن الربا محرّم على المسلمين . وهذا نظير ( الدور الثاني ) في تحريم الخمر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] الآية حيث كان التحريم فيه بالتلويح لا بالتصريح .
الدور الثالث : نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] . الآية وهذه الآية مدنية وفيها تحريم للربا صريح ولكنه تحريم ( جزئي ) لا ( كلي ) لأنه تحريم لنوع من الربا الذي يسمى ( الربا الفاحش ) وهو الربا الذي بلغ في الشناعة والقبح الذرة العليا ، وبلغ في الإجرام النهاية العظمى ، حيث كان الدَيْنُ فيه يتزايد حتى يصبح أضعافاً مضاعفة ، يضعف عن سداده كاهل المستدين ، الذي استدان لحاجته وضرورته وهو يشبه تحريم الخمر في المرحلة الثالثة حيث كان التحريم جزئياً لا كلياً في أوقات الصلاة
(1/173)

{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ . . . } [ النساء : 43 ] الآية .
الدور الرابع : وفي هذا الدور الأخير نزل التحريم الكلي القاطع ، الذي لا يفرّق فيه القرآن بين قليل أو كثير ، والذي تدل النصوص الكريمة على أنه قد ختم فيه التشريع السماوي بالنسبة إلى حكم الربا ، فقد نزل قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ . . . } الآيات .
وهذه الآيات الكريمة التي كانت المرحلة النهائية في تحريم الربا تشبه المرحلة النهائية في تحريم الخمر في المرحلة الرابعة منه حيث حرمت الخمر تحريماً قاطعاً جازماً في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] .
وبهذا البيان يتضح لنا سر التشريع الإسلامي في معالجة الأمراض الاجتماعية التي كان عليها العرب في الجاهلية بالسير بهم في طريق ( التدرج ) .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو الربا المحرّم في الشريعة الإسلامية؟
الربا الذي حرّمه الإسلام نوعان : ( ربا النسيئة ) و ( ربا الفضل ) .
أما الأول ( ربا النسيئة ) : فهو الذي كان معروفاً في الجاهلية وهو أن يقرضه قدراً معيناً من المال إلى زمن محدود كشهرٍ أو سنة مثلاً مع اشتراط الزيادة فيه نظير امتداد الأجل .
قال ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله : « إن الرجل في الجاهلية يكون له على الرجال مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه الدين أخّر عني ديْنَك وأزيدك على مالك ، فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة ، فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه » .
وهذا النوع من الربا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية ، حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد .
أما الثاني ( ربا الفضل ) : فهو الذي وضحته السنّة النبوية المطهرة ، وهو أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر ، مثاله : أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر ، أو رطلاً من العسل الشامي برطل ونصف من العسل الحجازي ، وهكذا في جميع المكيلات والموزونات .
والقاعدة الفقهية في هذا النوع من التعامل هي أنه ( إذا اتحد الجنسان حرم الزيادة والنّساء ، وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء ) .
وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول : إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت ، أو قمح بقمح ، أو عنبٍ بعنب ، أو تمر بتمر ، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا ، وإذا اختلفت الأجناس كقمح بشعير ، أو زيت بتمر مثلاً جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(1/174)

« الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبُرّ بالبُرّ ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثلٍ ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء » وفي حديث آخر « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد » أي مقبوضاً وحالاً .
الحكم الثاني : هل يباح الربا القليل؟ وما المراد من قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] ؟
يذهب بعض ضعفاء الإيمان ( من مسلمي هذا العصر ) إلى أن الربا المحرم إنما هو الربا الفاحش ، الذي تكون النسبة فيه مرتفعة ، ويقصد منه استغلال حاجة الناس ، أما الربا القليل الذي لا يتجاوز نسبته اثنين أو ثلاثة في المائة فإنه غير محرم ، ويحتجون على دعواهم الباطلة بأنّ الله تبارك وتعالى إنما حرم الربا إذا كان فاحشاً حيث قال تبارك وتعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] فالنهي إنما جاء مشروطاً ومقيداً وهو كونه مضاعفاً أضعافاً كثيرة ، فإذا لم يكن كذلك ، وكانت النسبة فيه يسيرة فلا وجه لتحريمه .
وللجواب على ذلك نقوله :
أولاً : إن قوله تعالى : { أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] ليس قيداً ولا شرطاً ، وإنما هو لبيان الواقع الذي كان التعامل عليه أيام الجاهلية ، كما يتضح من سبب النزول ، وللتشنيع عليهم بأنّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً ، حيث كانوا يأخذون الربا مضاعفاً أضعافاً كثيرة .
ثانياً : إن المسلمين قد أجمعوا على تحريم الربا قليله وكثيره ، فهذا القول يعتبر خروجاً على الإجماع كما لا يخلو عن جهلٍ بأصول الشريعة الغراء ، فإن قليل الربا يدعو إلى كثيره ، فالإسلام حين يحرّم الشيء يحرّمه ( كلياً ) أخذاً بقاعدة ( سدّ الذرائع ) لأنه لو أباح القليل منه لجرّ ذلك إلى الكثير منه ، والربا كالخمر في الحرمة فهل يقول مسلم عاقل إن القليل من الخمر حلال؟
ثالثاً : نقول لهؤلاء الجهلة ( من أنصاف المتعلمين ) : « أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ؟ فلماذا تحتجون بهذه الآية على دعواكم الباطلة ، ولا تقرؤون قوله تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الرباوا } وقوله تعالى : { اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا } وقوله تعالى : { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات } هل في هذه الآيات ما يقيد الربا بالقليل أو الكثير أم اللفظ مطلق؟ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر » لعن رسول الله آكل الربا ، وموكله ، وكاتبه ، وشاهديه ، وقال هم سواء « فالربا محرم بجميع أنواعه بالنصوص القطعية ، والقليل والكثير في الحرمة سواء . وصدق الله حيث يقول : { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - الربا جريمة اجتماعية ودينية خطيرة .
2 - الربا من الكبائر التي يستحق صاحبها عذاب النار .
3 - القليل من الربا والكثير في الحرمة سواء .
4 - على المؤمن أن يقف عند حدود الشرع باجتناب ما حرّم الله عليه .
(1/175)

5 - السلاح الذي يعصم المسلم من المخالفات إنما هو تقوى الله .
خاتمة البحث
حكمة التشريع
اعتبرت الشريعة الإسلامية الربا من أكبر الجرائم الاجتماعية والدينية ، وشنّت عليه حرباً لا هوادة فيها ، وأوعد القرآ الكريم المتعاملين به عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ، ويكفي أن نعلم عظم هذه الجريمة النكراء من تصوير حالة المرابين بذلك التصوير الشنيع الذي صورهم به القرآن ، صورة الشخص الذي به مسّ من الجن ، فهو يتخبط ويهذي كالمجنون الذي أصيب في عقله وجسمه .
ولم يبلغ من تفظيع أمر من أمور الجاهلية - أراد الإسلام إبطاله - ما بلغ من تفظيع أمر الربا ، ولا بلغ من التهديد في منكر من منكرات كما بلغ في شأن الربا ، فالربا في نظر الإسلام جريمة الجرائم ، وأساس المفاسد ، وأصل الشرور والآثام ، وهو الوجه الكالح الطالح الذي يقابل الصدقة والبر والإحسان .
الصدقة عطاء وسماحة ، وطهارة وزكاة ، وتعاون وتكافل . . . والربا شحّ ، وقذارة ، ودنس ، وجشع ، وأثرة ، وأنانية .
الصدقة نزولٌ عن المال بلا عوضً ولا ردّ ، والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه ، جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لكدّه وعمله ، ومن لحمه إن لم يربح أو خسر ، أو كان قد أخذ المال للنفقة على نفسه وأهله .
فلا عجب إذاً أن يعده الإسلام أعظم المنكرات والجرائم ، الاجتماعية والدينية ، وأن يعلن على المرابين الحرب { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } وذلك للأضرار الفادحة والمساوئ التي تترتب عليه ، ويمكننا أن نجمل هنا بعض هذه الأضرار في فقرات :
أولاً : ضرر الربا من الناحية النفسية .
ثانياً : ضرر الربا من الناحية الاجتماعية .
ثالثاً : ضرر الربا من الناحية الاقتصادية .
أما ضرر الربا من الناحية النفسية : فإنه يولّد في الإنسان حب ( الأثرة والأنانية ) فلا يعرف إلا نفسه ، ولا يهمه إلا مصلحته ونفعه ، وبذلك تنعدم روح التضحية والإيثار ، وتنعدم معاني حبّ الخير للأفراد والجماعات ، وتحلّ محلها حبّ الذات والأثرة والأنانية ، وتتلاشى الروابط الأخوية بين الإنسان وأخيه الإنسان فيغدوا الإنسان ( المرابي ) وحشاً مفترساً لا يهمه من الحياة إلا جمع المال ، وامتصاص دماء الناس ، واستلاب ما في أيديهم ، ويصبح ذئباً ضارياً في صورة إنسان وديع ، وهكذا تنعدم معاني الخير والنبل في نفوس الناس ويحل محلها الجشع والطمع .
أما ضرر الربا من الناحية الاجتماعية : فإنه يولّد العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع ويدعو إلى تفكيك الروابط الإنسانية والاجتماعية بين طبقات الناس ، ويقضي على كل مظاهر الشفقة والحنان ، والتعاون والإحسان في نفوس البشر ، بل إنه ليزرع في القلب الحسد والبغضاء ، ويدمّر قواعد المحبة والإخاء ، ومن المقطوع به أن الشخص الذي لا تسكن قلبَه الشفقةُ والرحمةُ ولا يعرف معنى للأخوة الإنسانية سوف يعدم كل احترام أو عطفٍ من أبناء مجتمعة ، وتكون النظرة إليه نظرة إزدراء واحتقار ، وكفى ( المرابي ) مقتاً وهواناً أنه عدو لمجتمعه ولأبناء وطنه بل إنه عدوّ للإنسانية لأنه يمتص دماء البشر عن طريق استغلال حاجتهم واضطرارهم .
(1/176)

أما ضرر الربا من الناحية الاقتصادية : فهو ظاهر كل الظهور لأنه يقسم الناس إلى طبقتين : طبقة مترفة تعيش على النعيم والرفاهية ، والتمتع بعرق جبين الآخرين وطبقة معدمة تعيش على الفاقة والحاجة ، والبؤس والحرمان ، وبذلك ينشأ الصراع بين هاتين الطبقتين ، وقد ثبت أن ( الربا ) أعظم عامل من عوامل تضخم الثروات وتكدسها في أيدي فئة قليلة من البشر ، وأنه سبب البلاء الذي حلّ بالأمم والجماعات حيث كثرت المحن والفتن ، وزادادت الثورات الداخلية وإنا لله وإنا إليه راجعون .
(1/177)

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
3- سورة آل عمران
[ 1 ] النهي عن موالاة الكافرين
التحليل اللفظي
{ أَوْلِيَآءَ } : جمع ولي ، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين .
قال الراغب : وكلّ من ولي أمراً الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 257 ] .
{ تقاة } : مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه .
قال ابن عباس : « التقيّة مداراة ظاهرة ، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه » .
قال القرطبي : وأصل تُقَاة ( وُقَية ) على وزن فُعَلَة مثل : تُؤَدة وتُهَمَة ، قلبت الواو تاء والياء ألفاً .
وقال أبو حيان : والمصدر على فُعَلة جاء قليلاً ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .
والمعنى : إلا أن تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب .
{ المصير } : المرجع والمآب ، والمعنى : رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم .
« وجه المناسبة »
لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك ، المعز المذل ، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته ، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء ، ونزعه ممن شاء ، وأن العزة والذلة بيده ، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين .
سبب النزول
1 - نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة ، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ . . . } الآية .
2 - وروى القرطبي في « تفسيره » عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في ( عُبَادة بن الصامت ) الأنصاري البدري ، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عُبادة : يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } الآية .
المعنى الإجمالي
نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة ، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله عز وجل وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه .
فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة ، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن ، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه .
(1/178)

وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل ( تقيّه ) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و ( يتخذ ) ينصب مفعولين ( الكافرين ) مفعول أول و ( أولياء ) مفعول ثان .
ثانياً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم ، و ( تقاة ) مفعول مطلق ل ( تتقوا ) وجوّز بعضهم أن يكون مفعولاً به أي إلا أن تتقوا شيئاً حاصلاً من جهتهم .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعبير بقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } بدل قوله : ( ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) للاختصار ، واستهجاناً بذكره ، وتقبيحاً لهذا الصنيع ، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله .
اللطيفة الثانية : قوله تعالى : { فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } ليس من الله ، أي ليس من دين الله أو شرع الله ، فهو على حذف مضاف ، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله ، لأنه جمع بين المتناقضين ، وقد قال الشاعر :
تودّ عدّوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عند بعازب
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على النظم الأول لكان ( إلا أن يتقوا ) .
اللطيفة الرابعة : إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى : { وإلى الله المصير } لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر .
« الآيات الدالة على تحريم موالاة الكافرين » .
وفي هذا المعنى الذي ذكرناه وهو حرمة موالاة الكافرين نزلت آيات كثيرة منها ما هو خاص بأهل الكتاب ومنها ما هو عام للمشركين نكتفي بذكر بعض هذه الآيات الكريمة .
1 - قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] .
2 - وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة . . . } [ الممتحنة : 1 ] .
3 - وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 57 ] .
4 - وقال تعالى :
(1/179)

{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً . . . } [ آل عمران : 118 ] .
5 - وقال تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ . . . } [ المجادلة : 22 ] .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم الاستعانة بالكفار في الحرب؟
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب على مذهبين :
1 - مذهب المالكية : أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو أخذاً بظاهر الآية الكريمة واستدلوا بما ورد في قصة ( عبادة بن الصامت ) كما وضّحها سبب النزول . واستدلوا كذلك بما روته عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من المشركين كان ذا جرأة ونجدة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يستأذنه في أن يحارب معه فقال صلى الله عليه وسلم له : « ارجع فلن استعين بمشرك » .
ب - مذهب الجمهور ( الشافعية والحنابلة والأحناف ) : قالوا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين : أولاً : الحاجة إليهم . وثانياً : الوثوق من جهتهم ، واستدلوا على مذهبهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد استعان بيهود فينقاع وقَسمَ لهم ، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن ، فدَلّ ذلك على الجواز ، وقالوا في الردّ على أدلة المالكية إنها منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وعمله ، وقال بعضهم : إن ما ذكره المالكية يحمل على عدم الحاجة أو عدم الوثوق حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق من جهته ، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز .
الحكم الثاني : ما معنى التقية وما هو حكمها؟
قال ابن عباس : التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً . وعرّف بعضهم التقيّة بأنها المحافظة على النفس والمال من شرّ الأعداء فيتقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها .
قال « الجصاص » في « أحكام القرآن » : « وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب ، بل ترك التقيّة أفضل . قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قُتل إنه أفضل ممن أظهر ، وقد أخذ المشركون ( خُبَيْب بن عدي ) فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من ( عمار بن ياسر ) حين أعطى التقية وأظهر الكفر ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال كيف وجدت قلبك؟ قال : مطئمناً بالإيمان ، فقال صلى الله عليه وسلم » وإن عادوا فعد . . . « . وكان ذلك على وجه الترخيص .
» قصة مسيلمة الكذاب مع بعض الصحابة «
روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم ، فترك سبيله ، ثم دعا بالآخر ، وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، قالها ثلاثاً ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه « .
(1/180)

الحكم الثالث : هل تجوز تولية الكافر واستعماله في شؤون المسلمين؟
استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تولية الكافر شيئاً من أمور المسلمين ولا جعلهم عمالاً ولا خدماً ، كما لا يجوز تعظيمهم وتوقيرهم في المجلس والقيام عند قدومهم فإن دلالته على التعظيم واضحة ، وقد أُمِرْنا باحتقارهم { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] .
قال ( ابن العربي ) : وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله .
قال ( الجصاص ) : ( وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء ، وأنه إذا كان الكافر ابن صغير مسلم بإسلام أمه ، فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ، ويدل على أنّ الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة ) .
ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] .
الحكم الرابع : حكم المداراة لأهل الشر والفجور :
تجوز مداراة أهل الشر والفجور ، ولا يدخل هذا في الموالاة المحرمة فقد كان عليه الصلاة والسلام يداري الفسّاق والفجّار وكان يقول : « إنا لنَبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم » أو كما قال ، قال بعض العلماء : إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير كما أنها لا تخالف أصول الدين فذلك جائز ، وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزور فلا تجوز البتة ، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - موالاة الكافرين ، ومحبتهم ، والتودّد إليهم محرمة في شريعة الله .
2 - التقية عند الخوف على النفس أو المال ، أو التعرض للأذى الشديد .
3 - الإكراه يبيح للإنسان التلفظ الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان .
4 - لا صلة بين المؤمن والكفر بولاية ، أو نصرة ، أو توارث ، لأن الإيمان يناقض الكفر .
5 - الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده .
(1/181)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
التحليل اللفظي
{ أَوَّلَ بَيْتٍ } : المراد به أول بيت للعبادة ، فالبيت الحرام أو المساجد على وجه الأرض ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع الناس فقال : « المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس » .
قال علي بن أبي طالب : أول بيت وضع الناس للعبادة .
قال الزمخشري : ومعنى ( وضُع للناس ) أي جُعل متعبداً لهم ، فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة .
{ بِبَكَّةَ } : اسم لمكة فتسمى ( مكة ) و ( بكة ) من باب الإبدال كقولهم سبد رأسه وسمده إذا حلقه ، وطين لازب ولازم ، وقيل : ( بكة ) موضع البيت ، و ( مكة ) الحرم كله .
قال ابن العربي : وإنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة ، فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى .
{ مُبَارَكاً } : البركة معناها الزيادة وأكثر الخير ، وهي نوعان : حسية ، ومعنوية .
أمّا الحسية : فهي ما ساقه الله تعالى من خيرات الأرض وبركاتها إلى أهل هذه البلاد ، تجبى إليهم من أقطار الدنيا كما قال تعالى : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] .
وأما المعنوية : فهي توجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها إلى هذه البلاد المقدسة ، يأتون إلأيها من كل فج عميق لأداء المناسك من الحج والعمرة استجابة لدعوة الخليل { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] .
{ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } : هدى مصدر بمعنى ( هداية ) أي أن هذا البيت العتيق هو مصدر الهداية والنور لجميع الخلق ، وقيل : المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم .
{ مَّقَامُ إبراهيم } : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين ارتفع بناء الكعبة وكان فيه أثر قدميه .
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من { مَّقَامُ إبراهيم } هو موضع قيامه للصلاة والعبادة ، يقال : هذا مقامه أي الموضع الذي اختاره للصلاة فيه ، وهذا قول ( مجاهد ) .
قال القرطبي : « وفسّر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله ، فذهب إلى أن من آياته الصفا ، والمروة ، والركن ، والمقام » .
فيكون المراد بالمقام المسجد الحرام كله .
{ آمِناً } : أي أمن على نفسه وماله . قال القاضي أبو يعلى : لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر ، وتقديره : ومن دخله فأمنوه .
وقد فسّر بعض العلماء الأمن بأن المراد منه الأمن من العذاب في الآخرة وروي في ذلك آثاراً ، ولا مانع من إرادة العموم ، الأمن في الدنيا ، والأمن من عذاب الله .
{ سَبِيلاً } : استطاعةُ السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه ، وقد فسّرت الاستطاعة بملك الزاد والراحلة كما جاء في الحديث الصحيح .
المعنى الإجمالي
بيّن الله عز وجل مكانة هذا البيت ( البيت الحرام ) وعدّد مزاياه وفضائله فهو أول بيت من بيوت العبادة وضع معبداً للناس بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ليكون مثابة للناس وأمناً ، ثم بني مسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون بناه « سليمان » عليه السلام ، فالبيت العتيق هو أول قبلة وأول معبد على وجه الإطلاق ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه وقد عدّد الله من مزايا هذا البيت ما يستحق تفضيله على جميع المساجد وأماكن العبادة ، فهو أول المساجد ، وهو قبلة الأنبياء ، وهو بلد الأمن والاستقرار وفيه الآيات البينات : الصفا ، والمروة ، وزمزم ، والحطيم ، والحجر الأسود ، ومقام إبراهيم ، وفوق ذلك فأنّ الله عز وجل خصّه بخصائص فجعله مركز الهداية والنور وفرض الحج إليه ، يأتيه الناس من أقطار الدنيا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، أفلا يكفي برهاناً على شرف هذا البيت وأحقيته أن يكون قبلة للمسلمين؟!
ذكر ( القرطبي ) في « تفسيره » عن ( مجاهد ) أنه قال : « تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية .
(1/182)

« وجه الارتباط بالآيات السابقة »
كانت الآيات من أول سور « آل عمران » إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع إثبات الوحدانية ، وقد تبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم ، وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدعٍ وأهواء ما أنزل الله بها من سلطان . . أما هذه الآيات من قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } [ آل عمران : 93 ] فقد جاءت لدفع شبهتين من شبه اليهود التي كانوا يثيرونها لإفساد عقائد الناس .
الشبهة الأولى : إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فقد استحللت ما كان محرّماً عليه ، فلست بمصدّق له ، ولا بموافق له في الدين ، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به . . . فردّ الله عز وجل عليهم بأن كل الطعام كان حلالاً لإسرائيل ولذريته { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة . . . } [ آل عمران : 93 ] الآية .
الشبهة الثانية : أما الشبهة الثانية التي أثارها اليهود فهي حينما حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة ، فقد طعن اليهود في نبوة محمد عليه السلام ، واتخذوا من هذا التحويل ذريعة لإنكار رسالته عليه الصلاة والسلام وتشكيك الناس في الإسلام ، وقالوا إن « بيت المقدس » أفضل من الكعبة ، وأحق بالاستقبال فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلّون إليه ، فلو كنت يا محمد على ما كانوا عليه لعظّمتَ ما عظّموا ، فرد الله سبحانه شبهتهم بهذه الآية { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الحكمة في اختيار البيت العتيق لفريضة الحج ، أن الله تعالى جعله قبلة أهل التوحيد ، وأقام بناءه وشيّد دعائمه أبو الأنبياء ( إبراهيم ) الخليل عليه السلام ، وهو أول المساجد على الإطلاق فليس ثمة معبد أقدم منه ، وهو يقابل البيت المعمور في السماء ، فالبيت العتيق مطاف أهل الأرض ، والبيت المعمور مطاف أهل السماء .
(1/183)

اللطيفة الثانية : قال الإمام الفخر : « إن الله أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت ، فالآخر هو الله رب العالمين ، والمبلّغ هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة ، فالآخر هو المِلكُ الجليل ، والمهندس جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ : إسماعيل عليه السلام » .
اللطيفة الثالثة : من مزايا البيت العتيق ، ذلك الأمن الذي جعله الله فيه ، وذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] وقد كان الناس يتخطفون من أطراف الأرض وأهل مكة في أمن واستقرار وقد امتن الله تعالى عليهم بقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « لو ظفرتُ فيه بقاتل الخطاب لما مسسته حتى يخرج منه » .
اللطيفة الرابعة : قال العلامة أبو السعود : « وضع ( ومن كفر ) موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه ولذلك قال عليه السلام » من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً « ، ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ، المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج ، والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق ، وأبرزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار ، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس ، لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته ، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال . . » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : حكم الجاني في الحرم .
اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فإنه يقتص منه ، سواءً كانت الجناية في النفس أم فيما دونها كالأطراف ، وعللوا ذلك بأنّ الجاني انتهك حرمة الحرم فلم يعد يعصمه الحرم من القصاص ، لأنه هو الذي أحدث فيه فيقتص منه . كما استدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } [ البقرة : 191 ] واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم هل يقتص منه في الحرم؟ على مذهبين :
1 - مذهب الحنفية والحنابلة : ذهب الإمام ( أبو حنيفة ) والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنّ من اقترف ذنباً واستوجب به حداً ثم لجأ إلى الحرم عصمه لقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله .
(1/184)

. والآية الكريمة على تقديره ( خبرٌ يقصد به الأمر ) ويكون المعنى : من دخله فأمّنوه ، فهو مثل قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } [ البقرة : 197 ] أي لا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجادل .
وهذا الرأي منقول عن حَبْر هذه الأمة ( عبد الله بن عباس ) فقد قال ابن عباس : إن جنى في الحِلّ ثم لجأ إلى الحَرَم لا يُقْتَصّ منه لكن لا يُجالس ولا يُبايع ولا يُكلّم حتى يخرج من الحرم فيقتص منه . . وهذا هو نفس مذهب الأحناف فإنهم قالوا إذا جنى ثم لجأ إلى الحرم فإنه لا يؤوي ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج فيقتص منه .
وقالوا : إن الحرم له حرمة خاصة فمن لجأ إليه احتمى كما قال تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وكما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] .
ب - مذهب المالكية والشافعية : وذهب ( الشافعية والمالكية ) إلى أنّ من جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه ، سواءَ كانت الجناية في النفس أو غيرها . واستدلوا ببضعة أدلة منها : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل بعض المشركين في الحرم ، وقال عن ( ابن خطل ) اقتلوه ولو رأيتموه متعلقاً بأستار الكعبة ومنها ما ورد ( إنّ الحرم لا يجير عاصياً ، ولا فاراً بخربة ولا فاراً بدم ) وأجابوا على قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } قالوا هذا كان في الجاهلية لو أنّ إنساناً ارتكب كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم ، وهذا من منن الله عزّ وجل على أهل تلك البلاد فقد جعل لهم الحرم مركز أمن واستقرار . . أما الإسلام فلم يزده إلا شدةً فمن لجأ إليه جانباً أقيم عليه الحد ، كيف لا والإسلام دين القوة والحزم؟!
الترجيح : ولعل الرأي الثاني هو الأوجه والأرجح ، لأننا لو أخذنا بالرأي الأول -على ما فيه من وجاهة - لأصبح الحرم مركزاً لاجتماع الجُناة والمجرمين ، ولاختل الأمن ، لأن القاتل يقتل ثم يفر من وطنه ويأتي الحرم ، لأنه يعلم أنه يحميه ، وبذلك تنتشر الجرائم وتكثر المفاسد والله تعالى أعلم .
الحكم الثاني : حكم حج الفقير والعبد :
الفقير لا يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة ، ولكنه إذا أدى الحج سقط عنه الفرض بالإجماع ، وأما العبد فإنه إذا حج هل تسقط عنه الفريضة؟
قال ( أبو حنيفة ) : يقع حجة نفلاً ويجب عليه أن يحج متى عتق ، لأنه يشبه الطفل دون البلوغ فإنه إذا حج ثم بلغ سن الرشد يجب عليه حجة الفريضة ، كذلك العبد إذا حج ثم عتق يجب عليه حجة الفريضة .
وقال ( الشافعي ) : يجزيه الحج قياساً على الفقير ، واستدل بأنّ الجمعة لا تجب على فإذا صلاها سقط عنه الظهر ، فكذلك الحج إذا أداه تسقط عنه حجة الفريضة ، وهذا الرأي ضعيف فقد نقل عن النووي وهو من أئمة المذهب الشافعي ما يخالف ذلك حيث قال : إن مذهب الشافعية أن العبد إذا أحرم بالحج ثم عتق قبل الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك ، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه ، ولعل هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن وهو الوقوف بعرفة أجزأه ذلك عن حجة الإسلام خلافاً لأبي حنيفة ومالك ، أمّا إذا كان العتق بعد فوات الحج فإنه لا يجزئه ، ولعله هذا هو الرأي الصحيح عند الشافعية فيكون الخلاف بين المذهبين ( شكلياً ) لا ( جوهرياً ) لأنهما متفقان على أن العتق إذا كان بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة فإنه لا يجزئه ويجب عليه الحج مرة أخرى لأن الأول يقل نافلة .
(1/185)

الحكم الثالث : هل المحْرَمْ بالنسبة للمرأة شرط لوجوب الحج؟
ذهب بعض الفقهاء إلى أن وجود المَحْرم شرط من شروط وجوب الحج وهذا هو مذهب الحنفية ، ودليلهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثٍ إلا مع ذي رحم محرمٍ أو زوج » وهذا عام يشمل كل سفرٍ سواءً كان للحج أو غيره . . واستدلوا أيضاً روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : « خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تسافر امرأة ومعها ذو محرم ، فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا ، وقد أرادت امرأتي في أن تحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احجج مع امرأتك » وهذا الحديث يدل على أن المرأة إذا أرادت الحج فليس لها أن تحج إلا مع زوجٍ أو ذي رحم محرم ، فقد أمره عليه الصلاة والسلام أن يترك الجهاد وهو فرض وأن يحج مع امرأته ، ولولا أن وجود المحرم واجب لما أمره بترك الجهاد والسفر مع زوجه .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حج الفرض لا يجب فيه المحرم بشرط أمن المرأة على نفسها بأن يكون معها عدة من النسوة . . وأما حج النافلة فيجب فيه المحرم ، وهم محجوبون بالأدلة التي ذكرناها مما يشير إلى أن الحج لا يجب على المرأة إلا إذا وجدت محرماً ، لأن وجود المحرم من شرائط الوجوب ، وهذا هو الأرجح .
تنبيه هام : أقول إذا كان الإسلام لم يسمح للمرأة أن تسافر لأداء فريضة الحج إلا مع ذي محرم - والحج أحد أركان الإسلام كما نعلم وهو فريضة على الرجل والمرأة - فكيف يسمح الناس لبناتهم بالسفر إلى بلاد بعيدة ، أو إلى بلدان أجنبية بحجة الدراسة وطلب العلم ، وليس معهن مَحْرمٌ أو من يوافقهن من أقاربهن؟! إن هذا - بلا شك - يدل على بعد الناس عن التمسك بآداب الإسلام وتعاليمه الرشيدة ، بل يدل على فقدان الرجولة والشهامة حتى أضحى أمر سفر النساء وتبرجهن واختلاطهن بالرجال أمراً طبيعياً معتاداً وإنا لله وإنا إليه راجعون!!
الحكم الرابع : ما هي شروط وجوب الحج؟
شروط وجوب الحج خمسة ، وهي ( 1 - الإسلام 2 - العقل 3 - البلوغ ، 4 - الاستطاعة ، 5 - وجود محرم مع المرأة ) وزاد بعضهم أمن الطريق وهو من شروط الأداء لا من شروط هي شروط لجميع التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام .
(1/186)

. الخ ، وأما الشرط الرابع وهو ( الاستطاعة ) فقد بينته الآية الكريمة بقوله تعالى : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } كما بينت السنة النبوية الاستطاعة بأنها ملك ( الزاد والراحلة ) فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من ملك زاداً وراحلة تبلغه بيت الله ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً » وذلك أن الله يقول في كتابه : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله عز وجل : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقال : السبيلُ : الزادُ والراحلة ) . .
قال الجصاص : وليست الاستطاعة مقصورة على وجود الزاد والراحلة لأن المريض الخائف ، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة ، والزَّمِنُ وكل من تعذّر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجداً للزاد والراحلة ، فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله : الاستطاعة ( الزادُ والراحلة ) أن ذلك جميع شرائط الاستطاعة ، وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن أمكنه المشي ولم يجد زاداً وراحلة فعليه الحج ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي « .
أما الشرط الخامس وهو ( وجود المحرم للمرأة ) فقد استوفينا شرحه فيما سبق والله أعلم .
الحكم الخامس : هل يجب الحج أكثر من مرة؟
ظاهر الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر وهو رأي الجمهور إذ ليس في الآية ما يوجب التكرار وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال : » خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا . . فقال رجل : كلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلك بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه « .
(1/187)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
[ 1 ] تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام
التحليل اللفظي
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا } : معناه نشر وفرّق على سبيل التناسل والتوالد ، ومنه { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] أي مبسوطة ، أو مفرقة في المجالس ، وأصل البث : التفريق وإثارة الشيء .
{ تَسَآءَلُونَ بِهِ } : معناه يسأل بعضكم بعضاً به مثل : أسألك بالله ، وأنشدك الله ، والمفاعلة على ظاهرها أو بمعنى تسألون كثيراً .
قال الزجاج : الأصل تتساءلون حذفت الثانية تخفيفاً .
{ والأرحام } : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ، ثم أطلق على القرابة مطلقاً .
{ رَقِيباً } : الرقيب : الحفيظ المطلّع على الأعمال والمَرْقب : المكان العالي الذي يشرف عليه الرقيب ، والمراد في الآية أنه تعالى مشرف على أعمالنا ، مطلع على أفعالنا ، لا تخفى عليه خافية ، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب جل وعلا .
{ اليتامى } : جمع يتيم وهو الذي فقد أباه مشتق من اليتم وهو الانفراد ومنه ( الدرة اليتيمة ) .
قال في « اللسان » : اليتيم : الذي يموت أبوه ، والعجيّ : الذي تموت أمه ، واللطيم : الذي يموت أبواه ، وهو يتيم حتى يبلغ ، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم .
{ حُوباً } : الحُوب : الإثم قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : حُوب بالضم ، وتميم يقولونه بالفتح ( حَوْب ) قال الراغب : الحُوب الإثم ، والحَوْبُ المصدر منه ، وروي ( طلاق أم أيوب حُوْب ) وتسميته بذلك لكونه مزجوراً عنه .
قال القرطبي : وأصله الزجر للإبل ، فسمي الإثم به لأنه يزجر عنه وفي الحديث « اللهم اغفر حوبتي » أي إثمي .
{ تُقْسِطُواْ } : يُقال : أقسط الرجل إذا عدل ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة » ويقال : قسط الرجل إذا جار ومنه قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
فالرباعي بمعنى العدل ، والثلاثي بمعنى الظلم .
{ تَعُولُواْ } : معناه تميلوا وتجوروا يقال : عُلْتَ عليّ أي جُرت عليّ ، ومنه العول في الفريضة ، والعول في الأصل : الميل المحسوس ، يقال : عال الميزان إذا مال ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور .
وفسّر الإمام الشافعي رحمه الله { أَلاَّ تَعُولُواْ } بمعنى ألا تكثر عيالكم .
{ صدقاتهن } : يعني مهورهن جمع صَدُقة بفتح الصاد وضم الدال ، وهي كالصداق بمعنى المهر ، قال ابن قتيبة : وفيها لغةٌ أخرى : صَدْقة .
{ نِحْلَةً } : النحلة : الهبة والعطيّة عن طيب نفس أي لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ، قاله أبو عبيدة ، وفسّر بعضهم النّخْلة بمعنى الفريضة والمعنى : وأعطوا النساء مهورهن فريضة من الله محتومة .
{ هَنِيئاً مَّرِيئاً } : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا انساغ وانحدر إلى المعدة بدون ضرر .
المعنى الإجمالي
افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، منبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي ( آدم ) ، وخلق منها زوجها وهي ( حواء ) ، ونشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها خلائق كثيرين ، فالناس جميعاً من أبٍ واحد ، وهم إخوة في الإنسانية والنسب ، فعلى القوي أن يعطف على الضعيف ، وعلى الغني أن يساعد الفقير ، حتى يتم بنيان المجتمع الإنساني .
(1/188)

وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين : في أول الآية وفي آخرها ليشير إلى عظم حق الله على عباده ، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } ليدل على أهمية هذه الرابطة العظيمة ( رابطة الرحم ) فعلى الإنسان أن يرعي هاتين الرابطتين : رابطة الإيمان بالله ، ورابطة القرابة والرحم ، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمان ، ولما كان هناك حروب طاحنة مدمرة ، تلتهب الأخضر واليابس ، وتقضي على الكهل والوليد!
وقد عقّب تعالى في الآية الثانية على ( حق اليتامى ) فأمر بالمحافظة على أموالهم ، وعدم الاعتداء عليها لأنهم بحاجة إلى رعاية وحماية ، وإلى مساعدة ومواساة ، فإن الطفل اليتيم ضعيف ، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله .
ثم أمر تعالى الرجال إذا كان في حجْر أحدهم يتيمة ، ورغب في الزواج بها ، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، أو يعدل إلى ما سواها من النساء ، فلم يضيّق الله عليه ، وأباح له أن يتزوج اثنتين ، وثلاثاً ، إلى أربع ، فإذا خشي عدم العدل فعليه أن يقتصر على واحدة .
وختم تعالى هذه الآيات بأمر الرجال بإعطاء النساء مهورهن عن طيب نفس ، عطّية وهبة بسخاء ، لا منّة فيها ولا استعلاء ، فإذا طابت نفوسهن عن شيء منه فليأكله الزوج حلالاً طيباً .
سبب النزول
أولاً : روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم ، فلما بلغ طلب ماله فمنعه ، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ . . . } قاله سعيد بن جبير .
ثانياً : عن عائشة رضي الله عنها : « أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق ، وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت فيه { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى . . . } .
ثالثاً : وروى البخاري عن ( عروة بن الزبير ) أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } فقالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشركه في ماله ، ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن ذلك إلاّ أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . . وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء . . . } [ النساء : 127 ] الآية .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { تَسَآءَلُونَ بِهِ } بالتخفيف ، وقرأ ابن كثير ونافع ( تَسّاءلون به ) بالتشديد .
(1/189)

قال الزجاج : فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكانهما ، ومن قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين .
2 - قرأ الجمهور { والأرحام } بالنصب على معنى واتقوا الأرحام ، وقرأ الحسن وحمزة ( والأرحامِ ) .
قال الزجاج : الخفض في ( الأرحام ) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر ، وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم » وإليه ذهب الفراء .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : إنما سميت هذه السورة ( سورة النساء ) لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر ممّا نزل في غيرها من السور ، وفي الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة ، تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة ، والمواريث ، والحقوق الزوجية ، وأحكام تتعلق بالنسب والمصاهرة وغيرها من الأحكام الشرعية .
اللطيفة الثانية : الناس جميعاً يجمعهم نسب واحد ، ويرجعون إلى أصل واحد هو ( آدم ) عليه السلام ، ونظرية ( النشوء والتطور ) التي اخترعها اليهودي ( داروين ) تعارض صريح القرآن ، القائل { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } فقد زعم ( داروين ) أن الإنسان بدأت حياته بجرثومة ظهرت على سطح الماء ، ثم تحولت إلى حيوان صغير ، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعاً ، فسمكة ، فقرداً ، ثم ترقى هذا القرد فصار إنساناً . . إلخ فهذه النظرية مجرد افتراضات وهمية ، ردّها العلماء بالأدلة القاطعة .
اللطيفة الثالثة : سميت حواء لأنها خلقت من حي كما قال تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهذا رأي الجمهور ، وأنكر ( أبو مسلم ) خلقها من ضلع آدم وقال : أي فائدة في خلقها من الضلع والله قادر على أن يخلقها من التراب؟ وزعم أن قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْهَا } أي من جنسها ، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ ( محمد عبده ) في « تفسير المنار » ، وهو باطل إذ لو كان تأويل الآية كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة ، وهو خلاف النص ، وخلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة « إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج » .
وأما الفائدة فهي بيان قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد ، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك ، فآدم خلق من تراب ، وعيسى خلق من أنثى بدون رجل ، وحواء خلقت من رجل بدون أنثى ، والله على كل شيء قدير .
اللطيفة الرابعة : التعبير عن الحلال والحرام بالخبيث والطيب { أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } للتنفير من أكل أموال اليتامى والترغيب فيما رزقهم الله من الكسب الحلال بالاكتفاء به وعدم التشوف إلى مال اليتيم فإنه ظلم وسحت .
اللطيفة الخامسة : قال أبو السعود : « أوثر التعبير عن الكبار باليتامى { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } لقرب العهد بالصغر وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق غير زائل عنهم » .
(1/190)

أقول : وهذا الإطلاق يسمى عند علماء البيان ( المجاز المرسل ) وعلاقته اعتبار ما كان ، أي الذين كانوا يتامى .
اللطيفة السادسة : أكل مال اليتيم حرام ، وإن لم يضمّ إلى مال الوصي ، والتقييد في الآية الكريمة { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } لزيادة التشنيع عليهم لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح وأشنع فلذلك خُصّ النهيُ به .
اللطيفة السابعة : وجه المناسبة بين ذكر اليتامى ونكاح النساء في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } هو أن النساء في الضعف كاليتامى ، ومن ناحية أخرى فقد كانت اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ، ويريد أن ينكحها بدون أن يعدل معها في الصداق فنهوا عن ذلك ، وقد تقدم حديث عائشة .
قال أبو السعود : « وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات ، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو حكم التساؤل بالأرحام؟
دلّ قوله تعالى : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } على أن التساؤل بالرحم جائز ولا سميا على قراءة ( حمزة ) الذي قرأها بالجر ( والأرحامِ ) وبهذا قال بعض العلماء ، لأنه ليس بقسم وإنما هو استعطاف فقول الرجل للآخر : أسألك بالرحم أن تفعل كذا لا يراد منه الحلف الممنوع ، وإنما هو سؤال بحرمة الأرحام التي أمر الله بصلتها ، واستدلوا بحديث « اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي هذا . . . » الحديث .
وكره بعضهم ذلك وقال : إن الحديث الصحيح يردّه : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » فاعتبره نوعاً من أنواع القسم ، وهو قول ابن عطية .
قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في اللغة العربية ، خطأ عظيم في أصول الدين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحلفوا بآبائكم » فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم؟ .
ونقل القرطبي عن ( المبرّد ) أنه قال : « لو صليت خلف إمام يقرأ { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } لأخذت نعلي ومضيتُ » .
قال القشيري : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد في فصاحته . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه « .
الحكم الثاني : هل يعطى اليتيم ماله قبل البلوغ؟
دلّ قوله تعالى : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } على وجوب دفع المال لليتيم ، وقد اتفق العلماء على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ لقوله تعالى في الآيات التالية
(1/191)

{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] فقد شرطت البلوغ ، وإيناس الرشد ، والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع ، وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان :
الوجه الأول : أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد ، وسمّوا يتامى ( مجازاً ) باعتبار ما كان أي الذين كانوا أيتاماً .
الوجه الثاني : أن المراد باليتامى الصغار ، الذين هم دون سن البلوغ ، والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة ، أو المراد بالإيتاء ترك الأموال وحفظها لهم وعدم التعرض لها بسوء . وهذا الوجه قوي وذلك أن بعض الأوصياء كانوا يتعجلون في إنفاق مال اليتيم وتبذيره ، فأمروا بالحفاظ عليه واستثماره فيما يعود بالنفع على اليتيم ، حتى إذا بلغ سن الرشد سلّموه له تاماً موفوراً ، ولعلّ الوجه الأول أقوى وأرجح والله أعلم .
الحكم الثالث : هل الأمر في قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } للوجوب أم للإباحة؟
ذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى : { فانكحوا } للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى : { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] وفي قوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 57 ] .
وقال أهل الظاهر : النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية ، لأن الأمر للوجوب ، وهم محجوبون بقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } إلى قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ النساء : 25 ] .
قال الإمام الفخر : « فحكَمَ تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خيرٌ من فعله ، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب » .
الحكم الرابع : ما معنى قوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } ؟
اتفق علماء اللغة على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد ، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها ، فمثنى تدل على اثنين اثنين ، وثُلاث تدل على ثلاثة ثلاثة ، ورُباع تدل على أربعة أربعة ، والمعنى : انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً حسبما تريدون .
قال الزمخشري : ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم : درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى . أي لو قلت للجَمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يضح الكلام ، فإذا قلت : درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم .
وفي هذه الآية دلالة على حرمة الزيادة على أربع ، وقد أجمع العلماء والفقهاء على ذلك ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوج بتسع نسوة بناء على أن الواو للجمع وأن المراد أن يجمع الإنسان اثنتين وثلاثاً وأربعاً .
(1/192)

قال العلامة القرطبي : « إعلم أن هذا العدد ( مثنى وثلاث ورباع ) لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَنْ بَعُد للكتاب والسنة ، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة ، وزعم أن الواو جامعة ، وعَضَد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعاً وجمع بينهن في عصمته ، والذي صار إلى هذه الجهالة ، وقال هذه المقالة ، والرافضةُ وبعض أهل الظاهر ، وذهب بعضهم إلى أقبح من ذلك ، فقالوا بإباحة الجمع بين ( ثمان عشرة ) وهذا كله جهل باللسان والسنة ، ومخالفة لإجماع الأمة ، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع ، وقد أسلم ( غيلان ) وتحته عشر نسوة فأمره عليه السلام أن يختار أربعاً منهن ويفارق سائرهن .
وقد خاطب تعالى العرب بأفصح اللغات ، والعرب لا تدع أن تقول ( تسعة وتقول : اثنين وثلاثة وأربعة ، وكذلك تستقبح ممن يقول : أعط فلاناً أربعة ، ستة ، ثمانية ، ولا يقول ( ثمانية عشر ) » .
أقول : إن الإجماع قد حصل على حرمة الزيادة على أربع ، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشذّاذ المخالفين ، فلا عبرة بقولهم فإنما هو محض جهل وغباء وكما يقول الشاعر :
ومن أخذ العلوم بغير شيخ ... يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من « الفهم السقيم »
أعاذنا الله من حماقة السفهاء وتطاول الجهلاء؟!
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - البشر جميعاً يرجعون إلى أصل واحدٍ ، وينتسبون إلى أبٍ واحد ، هو آدم عليه السلام .
2 - جواز التساؤل بالله تعالى كقولهم : أسألك بالله ، وأنشدك بالله .
3 - حق الرحم عظيم ولهذا أمر الله تعالى بصلة الأرحام وعدم قطيعتها .
4 - وجوب رعاية اليتيم والحفاظ على ماله ودفعه إليه عند البلوغ .
5 - إباحة نكاح النساء في حدود أربع من الحرائر وبشرط العدل بينهن في القسمة .
6 - وجوب الاقتصار على واحدة إذا خشي الإنسان عدم العدل بين نسائه .
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مسألة « تعدد الزوجات » ضرورة اقتضتها ظروف الحياة ، وهي ليست تشريعاً جديداً انفرد به الإسلام ، وإنما جاء الإسلام فوجده بلا قيود ولا حدود ، وبصورة غير إنسانية ، فنظّمه وشذّبه وجعله دواءً وعلاجاً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع . جاء الإسلام والرجال يتزوجون عشرة نسوة أو أكثر أو أقل - كما مرّ في حديث غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة - بدون حدّ ولا قيد ، فجاء ليقول للرجال : إن هناك حداً لا يحل تجاوزه هو ( أربع ) وإن هناك قيداً وشرطاً لإباحة هذه الضرورة في ( العدل بين الزوجات ) فإذا لم يتحقق ذلك وجب الاقتصار على واحدة { فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } .
فهو إذاً نظام قائم وموجود منذ العصور القديمة ، ولكنه كان فوضى فنظّمه الإسلام ، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع باللذائذ ، فجعله الإسلام سبيلاً للحياة الفاضلة الكريمة .
(1/193)

والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان أن « إباحة تعدد الزوجات » مفخرة من مفاخر الإسلام ، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل ، تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام ، وبالأخذ بنظام الإسلام .
إن هناك أسباباً قاهرة تجعل التعدد ضرورة كعقم الزوجة ، ومرضها مرضاً يمنع زوجها من التحصن ، وغير ذلك من الأسباب التي لا نتعرض لذكرها الآن ، ولكن نشير إلى نقطة هامة يدركها المرء ببساطة .
إن المجتمع في نظر الإسلام كالميزان يجب أن تتعادل كفتاه ، ومن أجل المحافظة على التوازن يجب أن يكون عدد الرجال بقدر عدد النساء ، فإذا زاد عدد الرجال على عدد النساء ، أو بالعكس فكيف نحل هذه المشكلة؟
ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟
أنحرم المرأة من ( نعمة الزوجية ) و ( نعمة الأمومة ) ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوربا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرقٍ شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة ، وطهارة الأسرة ، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العاقل أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف ، أم نجعلها خدينةً وعشيقة لذلك الرجل وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟!
لقد اختارت ألمانيا ( المسيحية ) التي يحرم دينها التعدد ، فلم تجد خيرة لها إلاّ ما اختاره الإسلام فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء ، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء .
تقول أستاذة ألمانية في الجامعة : ( إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة تعدد الزوجات . . . إنني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه . . إن هذا ليس رأي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا ) .
وفي عام 1948 ميلادية أوصى مؤتمر الشباب العالمي في ( ميونخ ) بألمانيا بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية .
ولقد حلّ الإسلام المشكلة بأشرف وأكرم الطرق ، بينما وقفت المسيحية مكتوفة الأيدي لا تبدي ولا تعيد ، أفلا يكون للإسلام الفضل الأكبر لحل مثل هذه الظاهرة التي تعاني منها أمم لا تدين بدين الإسلام؟!
ويجدر بي أن أنقل هنا بعض فقرات لشهيد الإسلام ( سيد قطب ) من كتابه « السلام العالمي في الإسلام » حيث قال تغمده الله بالرحمة :
« إن ثرثرةً طويلةً عريضة تتناثر حول حكاية » تعدد الزوجات « في الإسلام ، فهل هي حقيقة تلك الآفة الخطرة في حياة المجتمع؟
إنني أنظر فأرى كل مشكلة اجتماعية قد تحتاج إلى تدخل من التشريع إلاّ مسألة تعدد الزوجات فإنها تحل نفسها بنفسها .
(1/194)

. إنها مسألة تتحكم فيها الأرقام ، ولا تتحكم فيها النظريات ولا التشريعات .
في كل أمة رجال ونساء ، ومتى توازن عدد الرجال مع عدد النساء فإنه يتعذر عملياً أن يحصل رجل واحد على أكثر من امرأة واحدة .
فأما حين يختل توازن الأمة ، فيقل عدد الرجال عن النساء كما في الحروب ، والأوبئة التي يتعرض لها الرجال أكثر ، فهنا فقط يوجد مجال لأن يستطيع رجل تعديد زوجاته .
فلننظر إذاً في هذه الحالة وأقر الأمثلة لها الآن ( ألمانيا ) حيث توجد ثلاث فتيات مقبال كل شاب ، وهي حالة اختلال اجتماعي ، فكيف يواجهها المشرع؟!
إن هناك حلاً من حلول ثلاثة :
الحل الأول : أن يتزوج كل رجل امرأة ، وتبقى اثنتان لا تعرفان في حياتهما رجلاً ، ولا بيتاً ، ولا طفلاً ، ولا أسرة .
والحل الثاني : أن يتزوج كل رجل امرأة فيعاشرها زوجته ، وأن يختلف إلى الأخريين أو واحدة منهما لتعرف الرجل دون أن تعرف البيت أو الطفل ، فإذا عرفت الطفل عرفته عن طريق الجريمة ، وحملته ذلك العار والضياع .
والحل الثالث : أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة ، فيرفعها إلى شرف الزوجية ، وأمان البيت ، وضمانة الأسرة ، ويرفع ضميره عن لوثة الجريمة ، وقلق الإثم ، وعذاب الضمير ، ويرفع المجتمع عن لوثة الفوضى واختلاط الأنساب .
أي الحلول أليق بالإنسانية ، وأحق بالرجولة ، وأكرم للمرأة ذاتها وأنفع؟! « .
(1/195)

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{ السفهآء } : أصل السفه في اللغة الخفة والحركة ، يقال : تسفهت الريح الشجر إذا أمالته ، ورجل سفيه إذا كان ناقص التفكير خفيف الحلم ، والمراد به هنا الذي لا يحسن التصرف في ماله ، أو يبذره في غير الطرق المشروعة .
قال في « الكشاف » : « السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها » .
{ قياما } : أي به معاشكم وقوام حياتكم .
قال ابن قتيبة : قياماً وقواماً بمنزلة واحدة تقول : هذا قوام أمرك وقيامه أي ما يقوم به أمرك .
{ وابتلوا } : الابتلاء : الاختبار أي اختبروا عقولهم وتصرفهم في أموالهم .
{ آنَسْتُمْ } : أي علمتم وقيل : رأيتم ، وأصل الإيناس : الإبصار ومنه قوله تعالى : { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } [ القصص : 29 ] قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً؟ أي تبصّر .
{ رُشْداً } : الرشد الاهتداء إلى وجوه الخير ، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال .
{ إِسْرَافاً } : الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء ، والسرف والتبذير .
{ وَبِدَاراً } : معناه مبادرة أي مسارعة ، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به .
{ فَلْيَسْتَعْفِفْ } : استعفّ عن الشيء كفّ عنه وتركه ، وهو أبلغ من ( عفّ ) كأنه طلب زيادة العفة .
{ حَسِيباً } : أي محاسباً لأعمالكم ومجازياً لكم عليها .
قال الأزهري : يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب ، وأن يكون بمعنى الكافي ، ومن الثاني قولهم : حسبك الله أي كافيك الله . قال تعالى : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] .
{ القسمة } : المراد بالقسمة في الآية قسمة التركة بين المستحقين من الأقرباء .
{ أُوْلُواْ القربى } : المراد بهم الأقرباء الذين لا يرثون لكونهم محجوبين ، أو لكونهم من ذوي الأرحام .
{ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } : أي قولاً طيباً لطيفاً فيه نوع من الاعتذار ، وتطييب الخاطر ، قال سعيد بن جبير : يقول الولي للقريب : خذ بارك الله فيك ، إني لست أملك هذا المال إنما هو للصغار .
{ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } : أي سيدخلون ويذوقون ناراً حامية مستعرة يصطلي الإنسان بحرّها ولهبها .
المعنى الإجمالي
نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال ، التي جعلها الله للناس قياماً ، تقوم بها حياتهم ومعايشهم ، وأمر بالإنفاق عليهم بشتى أنواع الإنفاق من الكسوة والإطعام وسائر الحاجات ، كما أمر تعالى باختبار اليتامى حتى إذا رأوا منهم صلاحاً في الدين ، وحفظاً للأموال ، فعلى الأوصياء أن يدفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير ، وعليهم ألاّ يبذّروها ويفرطوا في انفاقها ، ويقولوا : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا ، فمن كان غنياً فليكفّ عن مال اليتيم ، ومن كان فقيراً فليأكل بقدر الحاجة ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلمها وكفى بالله محاسباً ورقيباً . ثم بيّن تعالى أن للرجال نصيباً من تركة أقربائهم ، كما للنساء ، فرضها الله لهم بشرعه العادل وكتابه المبين ، وأمر بإعطاء أولي القربى واليتامى والمساكين من غير الوارثين شيئاً من هذه التركة تطييباً لخاطرهم وإحساناً إليهم .
(1/196)

ثم حذَّر تعالى الأوصياء من الظلم للأيتام الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم ، وأمرهم بالإحسان إليهم ، فكما يخشى الإنسان على أولاده الصغار الضعاف بعد موته ، عليه أن يتقي الله في هؤلاء الأيتام فكأنه تعالى يقول : افعلوا باليتامى ، كما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم .
ثم ختم تعالى الآيات ببيان جزاء الظالمين الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وعدواناً ، وبيّن أنهم إنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة ، وسيدخلون السعير وهي نار جهنم المستعرة أعاذنا الله منها .
سبب النزول
أولاً : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا الولدان الصغار شيئاً ، ويجعلون الميراث للرجال الكبار فأنزل الله { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون . . . } الآية .
ثانياً : وروي عن ابن عباس أنه قال : « كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا ، فمات رجل من الأنصار يقال له : ( أوس بن ثابت ) وترك ابنتين وابناً صغيراً فجاء ابنا عمه فأخذوا ميراثه كله . فقالت امرأته لهما تزوجا بهما - وكان بهما دمامة - فأبيا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فنزلت الآية : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليهما فقال لهما : لا تحركا من الميراث شيئاً فقد أخبرت أن للذكر والأنثى نصيباً ، ثم نزل قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما } ، وقرأ نافع وأهل المدينة ( قِيَماً ) بدون ألف .
2 - قرأ الجمهور { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } بضم الراء ، وقرأ السلمي ( رَشَداً ) بفتح الراء والشين .
3 - قرأ الجمهور { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } وقرأ ابن عامر وعاصم ( وسَيُصْلُون ) بالبناء للمجهول .
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى : { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } مفعول لأجله ويجوز أن تعرب حالاً أي لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ، وقوله ( أن يكبروا ) في محل نصب ب ( بداراً ) .
ثانياً : قوله تعالى : { وكفى بالله حَسِيباً } الباء زائدة ولفظ الجلالة فاعل و ( حسبباً ) تمييز .
ثالثاً : قوله تعالى : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصيباً منصوب على المصدر و ( مفروضاً ) صفة له .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أضاف أموال اليتامى إلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إلى التكافل بين أفراد الأمة ، والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها ، فإن تبذير السفيه للمال فيه مضرة للمجتمع ، وهو كقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] عبّر عن قتل الغير بقتل النفس لهذه الرابطة بين أفراد المجتمع . قال الفخر الرازي : » المال شيء ينتفع به نوع الإنسان ويحتاج إليه ، فلأجل هذه ( الوحدة النوعية ) حسنت إضافة أموال السفهاء إلى الأولياء « .
(1/197)

اللطيفة الثانية : لمّا كان المال سبباً لبقاء الإنسان وقيام شؤون حياته ومعاشه ، سمّاه تعالى بالقيام إطلاقاً لاسم ( المسبَّب ) على ( السبب ) على سبيل المبالغة . ولهذا كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج إلى الناس .
اللطيفة الثالثة : قال صاحب « الكشاف » : « الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على أن المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة ، أو على أن المعتبر هو حصول طرفٍ من الرشد ، وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد » .
اللطيفة الرابعة : لفظ ( استعفّ ) أبلغ من ( عفّ ) كأنه يطلب زيادة العفة قاله أبو السعود . وفي لفظ الاستعفاف ، والأكل بالمعروف ، ما يدل على أن للوصي حقاً لقيامه بتدبير مال اليتيم ، وقد روي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : « إنّ في حجْري يتيماً أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف ، غير متأثل مالاً ، ولا واقٍ مالك بماله ، قال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضارباً منه ولدك » .
اللطيفة الخامسة : في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي ، مع أنه كان يكفي أن يقول : للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون . . . إلخ للاعتناء بأمر النساء ، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث ، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية ، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون : كيف نعطي المال من لا يركب فرساً ، ولا يحمل سلاحاً ، ولا يقاتل عدواً؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق ( الإطناب ) فتدبر أسرار الكتاب المجيد .
اللطيفة السادسة : ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة ، فهو كقول القائل : أبصرتُ بعيني ، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] وقوله : { ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة ، وفي الآية أيضاً تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء .
اللطيفة السابعة : قال القرطبي : « سمي المأكول ناراً باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى : { إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] أي عنباً يؤول إلى الخمر ، وقيل : المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه » .
اللطيفة الثامنة : قال الفخر الرازي : « وما أشد دلالة هذا الوعيد { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى ، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى » .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟
اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد .
(1/198)

وقال بعضهم : المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجاً أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك . وقيل : المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس .
وقال آخرون : المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفاً بهذه الصفة ، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز .
قال الطبري : « إن الله جل ثناؤه عمّم ، فلم يخص سفيهاً دون سفيه ، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهاً ماله ، صبياً صغيراً كان ، أو رجلاً كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى ، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله ، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله ، وفساده وإفساده ، وسوء تدبيره » .
الحكم الثاني : هل يحجر على السفيه؟
استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب ( الحجر على السفيه ) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد ، ويبلغوا سنّ الاحتلام .
والحجر على أنواع : فتارة يكون ( الحجر للصغر ) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة .
وتارة يكون ( الحجر للجنون ) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل .
وتارة يكون ( الحجر للسفه ) كالذي يبذّر المال ، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه .
وتارة يكون ( الحجر للإفلاس ) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه ، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها .
وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام ، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فقد شرطت الآية شرطين : الأول : البلوغ ، والثاني : الرشد وهو حسن التصرف في المال ، وقال الشافعي : لا بدّ أن ينضم الصلاح في الدين ، مع حسن الصلاح في المال ، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة .
وسبب الخلاف يرجع إلى معنى ( الرشد ) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو ( العقل ) وقول قتادة هو الصلاح في ( العقل والدين ) وقول ابن عباس هو ( الصلاح في الأموال ) ثم قال :
« وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد ( العقل وإصلاح المال ) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجراً في دينه » .
أقول : ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهداراً للكرامة الإنسانية ، وإنما يقال : إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية ، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه ، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلاً فلا يجب الحجر ، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة ، حيث جاء لفظ الرشد منكّراً ، { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } أي نوعاً من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال ، ولم يأت معرفاً والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال ، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم .
(1/199)

الحكم الثالث : هل يحجر على الكبير؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهاً .
وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمساً وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيداً أو غير رشيد .
قال العلامة القرطبي : « واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلاّ أن يكون مفسداً لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً أو غير مفسد لأنه يصير جَدّاً ، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جداً » .
أقول : الصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وهو مذهب الصاحبين ( أبي يوسف ومحمد ) أيضاً ، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه ، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال ، وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى قائماً بالشيخ والشاب ، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : « إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها » .
الحكم الرابع : هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟
دلّ قوله تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيراً بمقدار الحاجة من غير إسراف ، وإذا كان غنياً وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم ، ويقنع بما رزقه الله من الغنى ، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟
فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة ، وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله .
وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرتُ قضيت » .
(1/200)

وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض ، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنياً أو فقيراً ، واحتجوا بعموم الآيات { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] ، { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى } ، { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] .
قال الجصاص فهذه محكم حاصرة لمال اليتيم على وصيّه ، وقوله : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات .
وروي عن ابن عباس أنه قال : { وَمَن كَانَ فَقِيراً } الآية نسختها { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } إلخ .
الترجيح : وقد جرح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال : « وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } المراد أكل مال التيم عند الضرورة والحاجة إليه ، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله » .
أقول : ولعلَّ هذا القول أرجح ، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم .
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال .
2 - الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق .
3 - اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد .
4 - ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار .
5 - تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقاً للذكور والإناث في مال الأقرباء .
6 - وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده .
7 - الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار .
(1/201)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
[ 3 ] المحرمات من النساء
التحليل اللفظي
{ كَرْهاً } : الكَره بفتح الكاف بمعنى الإكراه يقال : افعل هذا طوعاً أو كَرْهاً ، وبضم الكاف ( كُرْهاً ) بمعنى المشقة قال تعالى { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] .
قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد .
وقال الفراء : الكَرْهُ بالفتح الإكراه ، وبالضم المشقة ، فما أكره عليه فهو ( كَرْه ) بالفتح ، وما كان من قبل نفسه فهو ( كُره ) بالضم .
{ تَعْضُلُوهُنَّ } : العضل في اللغة : المنع ومنه الداء العضال ، وقد تقدم بيانه بالتفصيل .
{ قِنْطَاراً } : القنطار المال الكثير ، وهو تمثيل على جهة المبالغة في الكثرة .
{ بُهْتَاناً } : البهتانُ الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل .
{ أفضى } : أي وصل ، وأصله من الفضاء الذي هو السعة .
قال في « اللسان » : وأفضى فلان إلى فلان وصل إليه ، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه ، والفضاء المكان الواسع من الأرض .
وقال الجوهري : أفضى الرجل إلى امرأته باشرها وجامعها وقال الفراء : الإفضاء الخلوة وإن لم يجامعها .
قال ابن عباس : الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني .
{ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } : أي عهداً شديداً مؤكداً ، وهو عقد النكاح الذي ربط الزوجين برباط شرعي مقدس .
{ سَلَفَ } : أي مضى وانقضى ، والسلفُ من تقدم من الآباء وذوي القربى .
{ فَاحِشَةً } : الفاحشة في اللغة : النهاية في القبح سميت فاحشة لأنها تناهت في القبح والشناعة .
{ وَمَقْتاً } : أصل المقت : البغضُ من مقته إذا أبغضه .
قال الراغب : المقت البغض الشديد لمن تعاطى القبح ، وكان يسمى تزوجُ الرجل امرأة أبيه ( نكاح المقت ) .
{ وَرَبَائِبُكُمُ } : جمع ربيبة وهي بنت المرأة من زوج آخر ، سميت بذلك لأنها تتربى في حجر الزوج فهي مربوبة ، فعيلة بمعنى ( مفعولة ) .
قال الرازي : الربيبة بنت امرأة الزوج من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل هو الذي يقوم بتربيتها .
{ حُجُورِكُمْ } : الحَجِرّ بالفتح والكسر : الحضن وهو مكان ما يحجره الإنسان ويحوطه بين عضديه وساعديه ، ويقال فلان في حَجْر فلان أي في كنفه ورعايته وفي تربيته ، والسبب في هذه الاستعارة أنّ كل من ربي طفلاً أجلسه في حجره ، فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال : فلان في حضانة فلان ، وأصله من الحضن .
{ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } : قال في « القاموس » : « ودخل بامرأته كناية عن الجماع ، وغلب استعماله في الوطء الحلال ، والمرأة مدخول بها ، ومنه الدخلة ليلة الزفاف » .
{ وحلائل } : أي زوجات جمع حليلة سميت بذلك لأنها تحل لزوجها ويحل لها فكلٌ منهما حلال للآخر ، ويقال للزوج : حليل .
{ والمحصنات } : يعني ذوات الأزواج ، وأصل الإحصان في اللغة المنع ، والحَصَان بالفتح المرأة العفيفة قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ الأنبياء : 91 ] وستأتي معاني الإحصان في سورة النور إن شاء الله .
{ مُّحْصِنِينَ } : أي متعففين عن الزنى .
{ مسافحين } : السفاح والمسافحة الفجور ، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب ، قال تعالى
(1/202)

{ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] ويقال : فلان سفّاح أي سفاك للدماء ، وسمى الزنى سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة .
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء على كره منهن ، ولا أن تمنعوهن من الزواج بعد تطليقكم لهن ، أو تضيقوا عليهن حتى تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من ميراث أو صداق ، إلاّ إذا أتين بفاحشة من الفواحش كالبذاءة باللسان ، والنشوز على الزوج ، والوقوع في المنكرات كالزنى وغيره فلكم حينئذٍ أن تعضلوهن حتى يفتدين أنفسهن منكم ، لأن الله لا يحب الظلم أياً كان مصدره . ثم أمر تعالى بحسن الصحبة والمعاشرة للأزواج بالمعروف ، فإذا كره الرجل زوجته فليصبر عليها ، وليستمرّ في إحسانه إليها ، فعسى أن يرزقه الله منها ولداً تقر به عينه ، وعسى أن يكون في هذا الشيء المكروه الخير الكثير ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها ، وكنتم قد أعطيتم المطلّقة مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً ، فلا تأخذوا منه شيئاً ، أتأخذونه ظلماً وعدواناً؟ وكيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية ، وبالاتصال الجنسي ( الجماع ) واستحللتم فروجهن بكلمة الله ( عقد النكاح ) فكيف تأخذون ما دفعتم لهن من المهور بعد هذا الميثاق؟ ثم بين تعالى ما يحرم على الرجال نكاحهن من المحارم ، وهنّ ( المحرمات من النساء ) فبدأ بحلائل الآباء ، وأبطل ما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من نكاح الولد لزوجة أبيه ، لأنه أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة ، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة ، إذ كيف يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ ثم عدّد تعالى المحرمات بالنسب وهن ( الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ) والمحرمات من الرضاعة وذكر منهن ( الأمهات والأخوات ) والمحرمات بالمصاهرة وهن ( أم الزوجة ، وبنت الزوجة ، وزوجة الابن ، والجمع بين الأختين ) وأحل ما سوى ذلك من النساء كما سنوضحه بالتفصيل عند ذكر الأحكام إن شاء الله تعالى .
في الآيات السابقة من أول سورة النساء نهى الله جل ثناؤه عن كثير من عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ونكاح اليتيمات من غير صداق ، وعن الظلم الذي كانو عليه في أمر الميراث حيث كانوا يحرمون المرأة والصغير من الميراث بحجة أن هؤلاء لا يستطيعون الذود عن العشيرة ، ولا حمل السلاح إلى آخر ما هنالك من مظالم اجتماعية ، وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لبيان نوع آخر من الظلم كانت تتعرض له النساء في الجاهلية وهو اعتبارهن كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر ، فقد كانوا يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله ، فحرّم الله ذلك وأمر بإحسان معاشرتهن وصحبتهن ، ودعا إلى إنصافهن من ذلك الظلم الصارخ والعدوان المبين .
(1/203)

سبب النزول
أولاً : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
ثانياً : وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل ، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله ، وألقى عليها ثوباً ، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
ثالثاً : وروي أن ( أبا قيس بن الأسلت ) لما توفي خطب ابنه ( قيس ) امرأته فقالت : إنما أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه وقالت : إنما كنت أعده ولداً فما ترى؟ فقال لها : ارجعي إلى بيتك ، فنزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } الآية .
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } بفتح الكاف ، وقرأ حمزة والكسائي ( كُرْهاً ) بضمها .
2 - قرأ الجمهور { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } بكسر الياء ، وقرأ ابن كثير وعاصم ( مبيَّنة ) بفتح الياء .
3 - قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر { وَأُحِلَّ لَكُمْ } بالضم وكسر الحاء ، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء .
أولاً : قوله تعالى : { أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و ( كرهاً ) مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير : لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ .
ثانياً : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره : ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة .
ثالثاً : قوله تعالى : { بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي اتأخذونه باهتين وآثمين و ( مبيناً ) صفة منصوب .
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : التعليل في قوله تعالى : { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن ، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم ، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء ، وهذا هو السر في قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } ولم يقل : وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء ، فتدبره فإنه دقيق .
اللطيفة الثانية : كنى الله عز وجل عن الجماع بلفظ الإفضاء { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } وهي كناية لطيفة مثل ( الملامسة ، والمماسة ، والقربان ، والغشيان ) وكلها كنايات عن الجماع ، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس : « الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني » والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به .
(1/204)

اللطيفة الثالثة : قال القرطبي : « خطب عمر رضي الله عنه فقال : » أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء ( مهورهن ) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحداً من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } فقال رضي الله عنه : أصابت امرأة وأخطأ عمر ، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار « .
اللطيفة الرابعة : قال صاحب » الكشاف « : » الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج . . . «
قال الشهاب الخفاجي : بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا :
صحبةُ يوم نسبٌ قريبُ ... وذمةٌ يعرفها اللبيبُ
اللطيفة الخامسة : قال الرازي : » مراتب القبح ثلاثة ، القبح في العقول ، وفي الشرائع ، وفي العادات ، فقوله ( إنه كان فاحشة ) إشارة إلى القبح العقلي ، وقوله ( مقتاً ) إشارة إلى القبح الشرعي ، وقوله ( وساء سبيلاً ) إشارة إلى القبح في العرف والعادة ، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح « .
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟
المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية ، وليس له قدر محدّد ، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر ، ويتفاوتون في السعة والضيق ، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته ، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } .
قال العلامة القرطبي : » في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور ، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح ، وذكر قصة عمر وفيها قوله « أصابت امرأة وأخطأ عمر » وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور ، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ، كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : « من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة » ثم قال : وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق « .
وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال :
أ - أقلة ثلاثة دراهم ( ربع دينار ) وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى .
ب - أقله عشرة دراهم ( دينار ) وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى .
(1/205)

Jasa Review WebsiteJasa Promosi Produk Terima Kasih telah Mengunjungi Blog mMn dan Selamat Berkunjung Kembali